"الإبراهيمية الجديدة".. الأساس النظري والخطوات التنفيذية (2-3)
الأربعاء - 6 أكتوبر 2021
- الإمارات العربية تمثل رأس الحربة كأداة تنفيذية لتحالف "مسار أبراهام" واتفاقياته التطبيعية
- "مجلس حكماء المسلمين" و "لقاء الأخوّة الإنسانية" و"بيت العائلة الإبراهيمية" أول الخطوات
- مخطط إنشاء "الولايات المتحدة الإبراهيمية يمتد حتى المغرب العربي ويتجاوز "النيل والفرات"
- صفقة القرن.. جزء من المشروع الإبراهيمي وهو المحاولة رقم 88 لتصفية القضية الفلسطينية
- إقامة مراكز ومؤسَّسات وبرامج "الدبلوماسية الروحية" بدأت بجمعيتين يقودهما توني بلير
- المؤسَّسات المالية الدولية ترعى "الدبلوماسية الروحية" باعتبارها وسيلة للتنمية المستدامة!
إنسان للإعلام- دراسة خاصة
في الحلقة الأولى من هذه الدراسة أشرنا إلى أن السلام الإبراهيمي، الذي تشكل اتفاقات أبراهام التطبيعية نواة تنفيذه، هو مشروع استعماري جديد يهدف إلى خلق شرق أوسط يخضع بالكامل لدولة الاحتلال الصهيوني.
ووفق الباحثة الدكتورة، هبة جمال الدين، مدرس العلوم السياسية بمعهد التخطيط القومي في مصر، فإن هذا المشروع الأمريكي الصهيوني، يعتمد على قراءة مغايرة للنصوص الدينية التوراتية، تعتبر أن الشعوب الأصلية (اليهود وغيرهم من السكان السابقين) هى أساس المناطق التي يمر بها "مسار إبراهيم"، وتم تهجيرهم قسريا، وبالتالى حسب المفهوم الإبراهيمي لتحقيق السلام العالمى، يتم إعادة الشعوب الأصلية إلى أرضها، وإجبار الدول الحالية على تمكين هذه الشعوب من إدارة اقتصاد هذه الدول!.
وهذه الشعوب الأصلية يتم تحديدها حسب بنود اتفاقية تم تدشينها في الولايات المتحدة عام 1990، جوهرها مخطط كبير لإنشاء ما يسمى بـ"الولايات المتحدة الإبراهيمية"، وهي دولة فيدرالية موعودة، تشمل مجمل الدول العربية في الشرق الأوسط و"إسرائيل" وإيران وتركيا، وحتى المغرب العربي، أي أنها أكثر اتساعاً حتى من "حدود النيل إلى الفرات"، على أن تكون القيادة الفيدرالية لـ"إسرائيل"، وتكسب شرعية ذلك من امتلاكها التكنولوجيا الضرورية لاستخدامها في جهود تطوير الشرق الأوسط، وتساعدها في ذلك تركيا لقدرتها على استيعاب المعارضة الإسلامية "الإخوانية"- كما ورد بمقال للباحث الفلسطيني أليف صباغ - التي قد تعارض القيادة الإسرائيلية للمشروع.
و تعتمد د. جمال الدين في دراستها هذه على الوثائق الأمريكية الموجودة في جامعات هارفارد وفلوريدا وبنسلفانيا ومصادر أخرى عديدة. وفي هذا السياق، تقول جمال الدين إن جامعة هارفارد أصدرت وثيقة بهذا الخصوص سميت "مسار إبراهيم" في العام 2013، وتبعتها جامعة فلوريدا، وتناولت وثيقتها مشروع "الاتحاد الفيدرالي الإبراهيمي" في العام 2015.
من هنا، يتضح لنا أننا أمام مشروع أكبر بكثير من "سلام" بين "إسرائيل" والإمارات والبحرين؛ البلدين اللذين لم يحاربا "إسرائيل" يوماً، وكذلك السودان والمغرب، وأن "صفقة القرن" هي مشروع استراتيجي تاريخي فعلاً، إذا ما نجح في ترسيخ أسسه على أرض الواقع.
في هذه الحلقة نستعرض الخطوات التي تم اتخاذها لتمهيد الطريق أمام تنفيذ هذا المشروع، ونتناول أيضا مدى واقعية هذا المشروع وقابليته للتحقق على أرض الواقع، وهل يمكن فعلا أن تمثل "الإبراهيمية الجديدة" وصفة ناجعة لبقاء الكيان الصهيوني وتمدده -ككيان غريب- في محيط إقليمي يرفض وجوده؟
وجه ديني زائف
في العقدين الأخيرين على الأقل، رسخت الولايات المتحدة وعززت القيم والرؤى المسيحية اليمينية، على الرغم من حقيقة أن الآباء المؤسسين لها لم يريدوا للولايات المتحدة ذلك أبدًا.
أما بالنسبة لإسرائيل، فقد استند تأسيسها على ادعاء أنها “دولة يهودية”. أما الإمارات العربية المتحدة، فبرغم أنها دائمًا ما كانت تصور نفسها على أنها دولة علمانية وتقدمية، إلا أنها غيرت شكلها في السنوات القليلة الماضية – بطريقة سلسة وماكرة للغاية – من دولة علمانية إلى دولة “وئام بين الأديان”، تشجع الحوار بين العقائد التوحيدية.
في الواقع، فعلت الإمارات ذلك لتقديم نفسها على أنها أفضل مرشح للتحالف مع الولايات المتحدة وإسرائيل في هذا المشروع الإقليمي الأمريكي الجديد، وعليه فقد نُحِت الوجه الديني الجديد للإمارات بسرعة في السنوات القليلة الماضية.
في الـ 18 من يوليو/ تموز2014، أنشأت دولة الإمارات "مجلس حكماء المسلمين"، وقد اعتُبر هذا بمثابة محاولةٍ لاستبدال الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، وكان الهدف الحقيقي من إنشاء هذا المجلس الجديد محط شكوكٍ جادّة بين المسلمين، خاصة في العالم العربي. وتعززت هذه الشكوك بشكل خاص بعد أن فشل المجلس في إدانة التطبيع الإماراتي مع إسرائيل، فيما أدانه الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين واعتبره غير جائز قبل إنهاء الاحتلال الإسرائيلي واستقلال فلسطين.
كما استضافت دولة الإمارات العربية المتحدة "لقاء الأخوّة الإنسانية" في الرابع من فبراير/ شباط 2019، الذي نظمه مجلس حكماء المسلمين، بهدف تعزيز الحوار بين الأديان حول التعايش بين البشر على مستوى العالم. وعُقد الاجتماع بالتزامن مع زيارة الدكتور أحمد الطيب إمام الأزهر الشريف والبابا فرنسيس رئيس الكنيسة الكاثوليكية إلى أبو ظبي. وصدرت وثيقة حول الأخوّة الإنسانية من أجل السلام العالمي والعيش المشترك في الاجتماع ووقعها كل من الإمام الأكبر والبابا. وبعد أسبوع، أعلن عبد الله بن زايد، وزير الخارجية والتعاون الدولي لدولة الإمارات، أنه اعتبارًا من العام المقبل، ستكون وثيقة الأخوة الإنسانية جزءًا من المناهج التعليمية في المدارس والجامعات. وانتقد رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين المؤتمر المذكور ونفى دعمه للوثيقة، بينما وصف الإمارات بأنها “دولة المؤامرات“.
وأثناء توقيع اتفاقية التطبيع بين الكيان الصهيوني والإمارات، ربط الرئيس الأمريكي السابق ”ترامب“ هذه الخطوة بـ ”إعادة بناء الشرق الأوسط“، موضًحا أنه ”من خلال توحيد اثنين من أقرب شركاء أمريكا وأكثرهم قدرة في المنطقة، وهو أمر قيل إنه لا يمكن القيام به، تعد هذه الصفقة خطوة مهمة نحو بناء شرق أوسط أكثر سلاما وأماًنا وازدهاًرا"
هذا التحرك الإماراتي جاء بعد أن أقام اتحاد دول مجلس التعاون الخليجيّ مكتباً حكومياً خاصاً في العام 2016، وأعلن عن العام 2019 عام التسامح.
وفي الـ 5 من فبراير/ شباط2019، أصدر محمد بن زايد قرارًا ببناء ما أسماه “بيت العائلة الإبراهيمية” كتمثيل لرؤية الإمارات للوئام بين الأديان في أبو ظبي، وذلك إحياءً لذكرى الزيارة التاريخية التي قام بها البابا والإمام الأكبر، و سيضم بيت العائلة الإبراهيمية مسجدًا وكنيسة وكنيسًا يهودياً في مجمع واحد، ويتم افتتاحه عام 2022.
لم يُنتقد هذا المشروع في العالم الإسلامي فحسب، بل تعرض أيضًا لانتقادات كثيرة من المسيحيين، خاصة الكاثوليك. والذين اعتبروا أن هذا المشروع يمثل “معبد لدين عالمي جديد”.
إذن لا ينبغي عرض هذه الأحداث بمعزل عن بعضها البعض، إذ تُظهر هذه الخطوات نمطًا تتبعه دولة الإمارات العربية المتحدة، ليس فقط لإعادة تشكيل خارطة المنطقة ولكن أيضًا لإعادة تشكيل معتقدات شعوبها.
المحاولة الثامنة والثمانون
يقول الباحث الفلسطيني أحمد أبو فول: هذا المشروع لتصفية القضية الفلسطينية يعد المحاولة الثامنة والثمانين منذ العام 1917. ولكن هذه المحاولة ليست الأخيرة فحسب، لكنها الأخطر كذلك
ومن بين مكوناته المشروع الأمريكي، المعروف باسم صفقة القرن، الذي يستند إلى الرواية الإسرائيلية بشكل أساسي، وهي رواية معروف أنها مبنية على السرديّة التوراتيّة. ومن الضروري ملاحظة أن الهدف وراء المشروع/الصفقة الأمريكية تغيير الوضع الراهن في مدينة القدس، ويلاحظ أن ترامب اعترف في ديسمبر/ كانون الأول 2017 بالقدس (الموحدة) كعاصمة لإسرائيل ونقلَ السفارة الأمريكية إلى القدس في أيار/مايو 2018. كما أنهت الولايات المتحدة مساعدتها لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) بعد فشلها في تغيير مناهجها في المدارس الفلسطينية في نيسان/أبريل 2017 (انظر هنا وهنا). ليس ذلك فحسب، بل إن الولايات المتحدة الأميركية انسحبت في العام 2018 من مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، واصفةً إياه بأنه هيئة مناهضة لإسرائيل.
لوحظ أيضا أن أيضاً أنَّ بعض رجال الدين أخذوا يستخدمون مصطلح "الديانات الإبراهيمية الثلاث"، الإسلامية واليهودية والمسيحية! كما أنَّ منظمة غوث اللاجئين الفلسطينيين، "الأونروا"، التي تُعنى بحياة اللاجئين الفلسطينيين، بادرت في العام 2017 إلى تغيير المناهج المدرسية من الصفّ الأول إلى الرابع.
ومن ضمن هذه التغييرات الكثيرة، استبدال تعريف القدس في المنهاج الدراسي من "عاصمة الدولة الفلسطينية" إلى "مدينة إبراهيمية مقدّسة للديانات الثلاث"، وهذا يلفت الى التساؤل عن ما يستتر وراءه من أفكار أو مقاصد، إن لم يكن مخطَّطات؟
وفي يوم 13 آب/أغسطس 2020، كتب الموقع العبري "بِحَدري حريديم " (غُرف الحريديم) أنَّ تسمية الاتفاق تعود إلى أن "أفرهام"/إبراهيم هو أب الديانات الثلاث الكبرى، ولا يوجد رمز لنجاح اتفاقية السلام بين إسرائيل والإمارات أفضل من شخصيته". وشدد الموقع على تصريح كوشنر "بالبحث عن القاسم المشترك".
أما معهد أبحاث الأمن القومي في "إسرائيل"، فقد نشر مقالاً يوم 3 أيلول/سبتمبر 2020 تحت عنوان "الإسلام في خدمة السلام: التداعيات والأسس الدينية لاتفاق أفرهام"، يقول فيه الكاتب: "في الوقت الذي تتجه الأنظار في إسرائيل إلى المصالح الاقتصادية والسياسية والأمنية للاتفاق، هناك اهتمام قليل بما يحمله من تحدّيات في المجال الديني".
لا يمكن غض الطرف عن هذه الوقائع والأحداث، أو النظر إليها بمعزل عن بعضها البعض: فجميعها مرتبطة وتؤدي إلى هدف واحد، وهو تصفية القضية الفلسطينية لصالح كل من قوة الاحتلال، إسرائيل، والمشروع الأمريكي الأكبر للمنطقة بأسرها، وهو الاتحاد الإبراهيمي برئاسة حليفتها، قوة الاحتلال، إسرائيل.
حقيقة أم خيال؟
قد يقول قائل إنه مشروع من صنع الخيال، ولا يمت للواقع بصلة. وهنا يتوجب علينا أن نتذكر أن مشروع الحركة الصهيونية كان من صنع الخيال أيضاً، وبدا حلماً لم يصدق الكثيرون أنه سيتحقق، إلا بفعل إصرار الصهاينة على تحقيق أحلامهم بإقامة المؤسّسات وتجهيز الكوادر والأدوات اللازمة لذلك، وتفعيلها وفق برامج محددة ومدروسة الأهداف والمراحل، وبغياب الفعل العربي، أو تساوقهم مع مخططات الآخرين وكأنها قدر من السماء.
والحقيقة أنه لأجل تحقيق هذا المشروع الفيدرالي، يتم العمل منذ سنوات على 3 مستويات:
1. إقامة مراكز ومؤسَّسات وبرامج "الدبلوماسية الروحية". وفي هذا المستوى تفصيل كثير. ومن هذه المؤسسات، جمعيتان يقودهما توني بلير، رئيس الوزراء البريطاني الأسبق المعروف بولائه لـ"إسرائيل"، الأولى في أفريقيا والأخرى في الشرق الأوسط، وهاتان الجمعيتان تدربان الكوادر الشبابية للترويج لهذا المشروع. كما يدرس هذا الفكر في الجامعات الأميركية، ومنها جامعتا فرجينيا وبنسلفانيا.
2 .المستوى الحكومي، إذ أسَّست الإدارة الأميركية الديموقراطية إدارة خاصة في وزارة الخارجية منذ العام 2013، أي تحت رعاية هيلاري كلينتون، وهي ما تزال فاعلة بقوة في ظل إدارة ترامب أيضاً، تحت عنوان "الحوار الاستراتيجي مع المجتمع المدني"، وتضم هذه الإدارة مئة شخصية، منها 50 دبلوماسياً و50 من الرؤساء الروحيين المؤثرين، المسلمين والمسيحيين واليهود، لتقديم المشورة للدبلوماسيين لتحقيق أهداف المشروع.
3. رعاية "الدبلوماسية الروحية" من قبل المؤسَّسات المالية الدولية، مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، باعتبار أن "السلام الديني" يسمح بالتنمية المستدامة، ويقاوم الفقر في الدّول التي لا تمتلك التكنولوجيا الضروريّة للتنمية.
لأجل تجسيد هذا المشروع على الأرض، انطلقت أيضاً مشاريع سياحيَّة تحت اسم "مسار إبراهيم" في الدول ذات الصلة، وهو عبارة عن مسارات تشكّل مقاطع لمسار واحد طويل، وهو مسار يزعم أن إبراهيم الخليل مشى فيه، ويرفض هذه الأسطورة المؤرخون وعلماء الآثار، بما في ذلك الإسرائيليون.
ينطلق المسار من تركيا، وبعضهم يقول من العراق، ويمرّ في سوريا ولبنان وفلسطين، ليصل إلى مكة والمدينة المنورة، ففي الضفة الغربية، يُسمى مسار "إبراهيم الخليل"، وفي "إسرائيل" يسمى "مسار إبراهيم"، حتى أصبح جزءاً من هذه المسارات/ المقاطع يستقطب السياحة الدولية بالفعل.
ولهذا الهدف، وصل صحافيون إسرائيليون عاملون في البرنامج الشهير "مساع أحير"/ سفرة أخرى"، إلى مدينة أورفا، جنوب شرق تركيا، فجاؤوا بقصص وأساطير تتحدَّث عن بركة إبراهيم العجائبية، وعن بيته ومغارته... وهي من القصص التي تثير شغف السائح، ولكنّها في الأساس والجوهر والهدف تؤسس لوعي جديد ينشر ويعزز الرواية الصهيونية وعلاقة اليهود التاريخية في منطقة الشرق الأوسط، وتحويل الخرافات والأساطير اليهودية إلى تاريخ يروى للعالم.
******
المصادر:
- اتفاقات أبراهام: تقديم الدبلوماسية الروحية، الاستعمار الجديد وعصر القانون الدولي التوراتي الجديد (1/3)، فيستو، https://bit.ly/2Yvxr5x
- أليف صباغ، أبعد من اتفاقيات التطبيع.. مشروع "الولايات المتحدة الإبراهيمية"، موقع الميادين، https://bit.ly/3h58qEx
- هبة جمال الدين توضح مفهوم السلام الإبراهيمي وخطورته على الدول العربية، موقع صدى البلد،
https://www.elbalad.news/4951071
- هاني رمضان طالب، الإبراهيمية: بين التعايش والسيطرة، مركز دراسات الوحدة العربية، https://bit.ly/3tiLNBm