أشرف الشربيني يكتب: ثورة يناير.. ودروس المستقبل
الجمعة - 27 يناير 2023
مثَّلت ثورة يناير 2011، الثورة الثانية في مصر بعد نحو مائة عام من ثورة 1919، الثورة المصرية الأولى في القرن العشرين، وبينهما حدث انقلاب عسكري، كان أقسى على المصريين من المستعمر الأجنبى!
فى الثورة الأولى (1919)، كانت المواجهة مع مستعمر أجنبي، أنتجت فى نهايتها أول انتخابات نيابية عام 1924، والتي أفرزت حكومة وفدية بقيادة سعد زغلول، والتي سرعان ماقدمت استقالتها في نوفمبر من نفس العام، بعد حادثة مقتل السير " لي ستاك"، سردار (قائد) الجيش المصري والقائد العام للسودان! فقد نجحت ثورة 19 في تشكيل حكومة وطنية، لكنها فشلت فى تحقيق الاستقلال.
ثم جاء انقلاب عسكرى في يوليو 1952، حكم مصر نحو ستين عاماً، بعد أن وعد بفترة انتقالية لثلاثة أعوام فقط! تدثَّر خلالها بشعارات وطنية براقة، لكنه اغتال أحلام المصريين في استقلال حقيقي وحياة كريمة، فجلب على البلاد هزائم أوقعتها رهينة قوى الخارج، فاجتمع على المصريين بلاءان، تبعية ممقوتة للمستعمر، وحكم عسكري مستبد، فالحاكم الفاسد المستبد هو وكيل المستعمر وأداته فى السيطرة على الشعوب ونهب ثرواتها.
فاندلعت الثورة الثانية (2011) لتدفع عن بلادنا البلاءين معاً، فأفلتت من فوضى خُطط لها، وحافظت على سلميتها، وأجبرت العسكرعلى انتخابات، استرد الشعب بها (شرعيته) فاختار رئيسه ودستوره.
واستطاع ذلك الرئيس القادم من رحم الثورة أن ينتزع عاماً من بين أنياب العسكر، قدَّم فيه نموذجاً للحكم العادل الرشيد، فرجحت كفة ذلك العام بأعوام حكم العسكر الستين كلها. ولم تستطع القوى الخارجية أن تروِّض رئيس ما بعد الثورة كما كان يحدث مع سابقيه، بعدما ظهرت مواقفه قوية واضحة، فداخلياً واجه الفساد وحمى الطبقتين الفقيرة والمتوسطة وسعى إلى الاكتفاء الذاتي من غذائه وسلاحه، وخارجيا حرص على بناء علاقات خارجية متوازنة، تخرج بنا من هيمنة القطب الواحد..
فلم تتحمل القوى الخارجية هذا الوضع المتوازن الجديد لمصر مابعد الثورة، خاصة بعد موقف مرسي من حرب غزة 2012، فأوعزت لقادة الجيش المصري بالانقلاب على الرئيس المنتخب فى يوليو 2013، بعدما استطاعت قوى الثورة المضادة استقطاب بعض الغاضبين من وجود رئيس إسلامي على رأس السلطة.
والآن بعد اثنى عشر عاما من قيام الثورة، ونحو تسع سنوات من الانقلاب عليها، لا زالت الثورة حية في صدور شعبها بما قدمت من نماذج لا زال شعبنا يذكرها بكل خير واعتزاز، خاصة بعد أن عانى من شظف العيش ووطأة الديون واستبداد الانقلابيين، أكثر مما عاناه في سنوات ما قبل الثورة.
فقد كان الفارق الذى أحدثته الثورة هائلاً بين رئيس منتخب يسترضي شعبه، وبين انقلاب عسكري يسترضي داعميه.. ولم يستطع الانقلابيون أن يتجاوزوا ذلك الفارق، رغم الدعم الخارجي منقطع النظير، ليكون التدافع بين الثورة والثورة المضادة على أشده، تحكمه سنن الله الغالبة..
- فما من ثورة تقوم، وإلا وتُولد معها أخرى مضادة لها، ويستمر التدافع بينهما ما ثبت الثائرون على مبادئهم، وما سقوط بعض من انحازوا إلى الثورة في تأييد الانقلاب أو التمهيد له إلا دليل على صحة هذا التدافع وجديته، فالتغيير الذى تبغاه الشعوب، إنما يصنعه أولئك النبلاء الذين يتمتعون بصلابة المواجهة وثبات المبادئ، وما النموذج الذي ضربه الرئيس الشهيد محمد مرسي الذي افتدى الشرعية بحياته، ومعه المتمسكين بالشرعية رغم الجراح، إلا أمثلة حية لهؤلاء.
- أن ماحدث كان جولة أولى فى التدافع بين الثورة والثورة المضادة، فانكشفت للشعب حقيقة الثورة المضادة وقبحها، عارية بلا ألوان تسترها أو تزينها، فسقط من منصة العدالة قضاة فاسدون، وانفضح في الإعلام مرتزقة مأجورون، وخرج من صفوف (حماة) الوطن قتلة مفسدون. إلا أن ما تحقق في الجولة الأولى من الثورة، لم يكن كافيا لهدم النظام القديم، فضلا عن بناء الجديد، لكنه كان كافياً لفضح الدخلاء على الثورة، لتبدأ بعد ذلك جولة جديدة من التدافع فى بيئة متمايزة الصفوف والانحيازات.
- أثمان الثورة عاجلة، لكن نتائجها مؤجلة، ويفصل بين دفع الثمن وحصول النتائج عقود من التدافع والاحتمال، فالثورة الفرنسية استمرت نحو 80 عاماً، ترددت فيها بين الثورة وبين الثورة المضادة، وما الثورات الأوروبية التى تفجَّرت فى القرن التاسع عشر سوى إرتدادات لزلزال الثورة الفرنسية الى اندلعت فى أواخر القرن الثامن عشر (1798).
- الثورة أنشأت معادلات جديدة على الأرض، بعضها بفعل الثورة، وبعضها الآخر بفعل الانقلاب عليها، فدراسة الثورة المضادة وداعميها، وملاحظة سلوك المنتسبين الى الثورة وتقلباتهم، وتقدير مكتسبات الثورة وحمايتها.. صار دراسة كل ذلك فرض عين فى حق من يريدون إستكمال الثورة وتحقيق أهدافها.
- وأخيراً الترويج للعودة الى ما قبل ثورة يناير، بدعوى أن الثورة هُزمت، وأن من قام بها كان سبباً فى الانقلاب عليها! إنما هو خيانة للثورة وشهدائها، وخذلان للشعب الذى ناضل وتحمَّل لأجل استرداد حقوقه، فالمواجهة اليوم ليست مع الانقلابيين فقط، إنما كذلك مع ركام الثقافات والانحيازات التى شكلت الوعى الجمعى لجماعات المصالح التى تماهت مع الثورة المضادة وأيدت الانقلاب على شرعية الشعب المصرى.
فالتمسك بالثورة وحماية مكتسباتها، وعدم الاعتراف بالانقلاب أو تمرير جرائمه، هو عنوان الوفاء لثورة الشعب وتضحياته، وغاية ما تستطيعه الثورة المضادة تأجيل إنتصار الثورة وليس إجهاضها، متى تسلَّح أصحابها بالثبات والوعي.
يقول الإمام الشهيد حسن البنا: "لا تصادموا نواميس الكون فإنها غلابة، ولكن غالبوها واستخدموها وحولوا تيارها واستعينوا ببعضها على بعض، وترقبوا ساعة النصر وما هي منكم ببعيد"
(رسالة المؤتمر الخامس)