أكتوبر والفرص الضائعة.. كيف أفسد حكم الفرد انتصار الجيش والشعب؟

الأحد - 23 أكتوبر 2022

إنسان للإعلام- خاص:

المقدمة

إن مرور نحو خمس عقود على أكبر انتصار عربى حدث منذ تأسيس الدول العربية فى حرب أكتوبر 73، يستدعى مراجعة النتائج والمآلات أكثر مما يستدعى سرد الأحداث والتفاصيل، فتوابع الحرب خلال نصف قرن من الزمان، كشفت ما كان مخبوءا أو منكورا من اتفاقات أو إخفاقات.

لقد حققت الحرب في مرحلتها الأولى (6-14 أكتوبر) أعظم انتصار فى التاريخ العربى الحديث، ثم تعثَّر ذلك الانتصار بقرارات فردية بسبب غياب دولة المؤسسات، في مرحلتها الثانية (15-24 أكتوبر) ، ثم أعقب ذلك اجهاض الانتصار، بتزييف وقائعه وإذلال قادته، ثم أخيرا بتمدد العدو (المهزوم) فى الداخل المصرى والعربى عبر موجات (التطبيع)!  وبانقلاب المعادلة، أصبح العدو صديقاً، والمقاوم عدواً!

 كل ذلك يستدعى مراجعة النتائج والمآلات، خاصة أن الأسباب التي بددت انتصار أكتوبر، هي ذاتها التي صنعت هزيمة يونيو 67، وأبرزها غياب دولة القانون والمؤسسات، واختزال الدولة فى شخص (الزعيم)،  ولنكتشف فى النهاية أن (العبور الأول) لخط بارليف فى أكتوبر 1973، لم يكن كافيا، بل كان يحتاج إلى (عبور ثان) يستعيد دولة المؤسسات والقانون، ثم إلى (عبور ثالث) تمتلك فيه هذه الدولة أسباب القوة والمنعة.

تعريف دولة المؤسسات

هى تلك الدولة التى يخضع كل من فيها للقانون، فيصبح الحاكم حينذاك مجرد ممارس للسلطة وليس صاحباً لها، وذلك يتحقق بــ :

  1.  مؤسسات مستقلة عن سلطة الحكم
  2.  حياة سياسية، تضمن تداول سلمى للسلطة
  3.  مجتمع مدنى صحى وقوى، يبنى الدولة ويحميها

لكن حين تعتدى سلطة (الحاكم) على استقلال المؤسسات فى الدولة، من قضاء وإعلام وجيش وغيره، فحينذاك تفقد هذه المؤسسات قدرتها على ممارسة وظيفتها، وتصبح أداة فى يد السلطة، ويصبح شعار لويس الرابع عشر (أنا الدولة) هو القاعدة القانونية الوحيدة المطبقة فى البلاد(1)

واختزال الدولة فى شخص (الزعيم)، هو إفراغ للدولة من مصادر قوتها، فتصبح حماية النظام أولى من حماية الوطن، ويصبح الرئيس هو صاحب القرار ومصدره، ومن ثم تواجه (دولة الزعيم) الخارج المعتدى بالسياسة، والداخل المختلف بالحرب! فتكون حينذاك الهزيمة محققة مؤكدة، وسنكتشف أن هزيمة يونيو 1967، كانت نتيجة طبيعية لغياب دولة القانون والمؤسسات، لصالح دولة الزعيم الفرد.

(جمهورية الخوف).. طريق الهزيمة

حرص انقلاب عبد الناصر عبر نظامه، على تكريس كل السلطات في يده! فسيطر على الصحافة، ومنع الأحزاب، واصطدم بالقضاء، وزج بمعارضيه في السجون، وأسس لجمهورية (الخوف).. حيث فرض الرقابة على الصحافة فى أكتوبر1952 (بعد ثلاثة أشهر من الانقلاب)، وحل مجلس نقابة الصحفيين فى 15 ابريل 1954! وحل الأحزاب وصادر أموالها ومقارها فى 16 يناير 1953، وشكل محكمة الثورة فى 13 سبتمبر 1953 والتى قضت باعتقال معظم قادة الاحزاب؛ فتجمدت الحياة السياسية، ودخلت البلاد تحت حكم الحزب الواحد.. حيث بلغت نسبة القوانين التى أصدرها عبد الناصر دون مشاركة مجلس الأمة 82.1% من اجمالى التشريعات التى صدرت فى الفترة من 25 يونيو 1956 الى 28 سبتمبر 1970، اذ كان يُنظر لمجلس الأمة خلال حكم عبد الناصر على أنه فرع من فروع الحكومة (2)

وكان عبد الناصر يعبر عن هذه الحالة فيقول: (أنا معتمد على الله وعلى إيمان هذا الشعب، وعلى أن هذه القرارات تحقق أمل وأمانى الشعب)! (3)

فكانت المؤسسة الوحيدة التي يُصنع فيه القرار، هي (عقل) جمال عبد الناصر باعتباره قائد الأمة، وأخطر القرارات اتخذها منفردا، ومنها قرار تأميم قناة السويس وكذلك قرار الانخراط فى الحرب الأهلية في اليمن!

الجيش وحده كان هو المؤسسة الوحيدة شبه المستقلة، لكنه استقلال لحساب حماية النظام لا حماية الوطن، لكن عبد الحكيم عامر انقلب لاحقا على عبدالناصر، ليصبح الجيش أداة صراع بينهما!

وقد انعكس ذلك كله على حالة المجتمع المصرى ومدى تماسكه، فبفعل السياسات القمعية التى اتبعها عبد الناصر، أُعدمت قيادات عمالية (الخميس والبقرى)، وأاعتقلت أعداد كبيرة من النساء كرهائن حتى يسلم ذووهم أنفسهم! وكانوا ينادون الرجال بأسماء النساء ثم يحضرون الكلاب لتنهش لحمهم! وقد نالت جماعة الاخوان المسلمين الحظ الأوفر من هذه الاجراءات القمعية، بالاضافة الى محاربة التدين وتأميم الأزهر ومصادرة الأوقاف وإلغاء المحاكم الشرعية، مما أدى الى نشوء ظاهرة الإلحاد بين أفراد المجتمع المصرى.

 تقول مُراسلة أسوشيتد برس "ضياء حديد": (في الستينيات والسبعينيات، كانت السيادة السياسية في صالح اليسار العلماني. لذا، لم يمثل الإعلان عن الكفر بوجود الله مشكلة) (4)

اعتبر عبد الناصر أن معركته مع الداخل لا مع الخارج! يقول خالد محي الدين في مذكراته: "إن جمال عبد الناصر طلب من أعضاء مجلس الثورة تكوين تنظيم سري للتخلص من الإخوان والشيوعيين و طبقة الباشوات الرجعية" (5)

وهكذا لم تكن بنية النظام ولا حالة المجتمع تسمحان لعبد الناصر بخوض حرب ضد إسرائيل فضلا عن الانتصار فيها، فــ "الاستبداد السياسي حرب أهلية مؤجَّلة، وبركان خامد ينتظر لحظة انفجاره" (6)

هُزمت مصر فى حرب يونيو 1967، هزيمة مذلة، وفقد عبد الناصر في ثمانية وأربعين ساعة، جيشاً أعده في عشر سنوات! وتكلف عشرة ملايين جنيه (باعتراف عبد الناصر نفسه).. (7)

حين تغيب دولة المؤسسات والقانون، ويُختزل حضورها في شخص الزعيم، تكون الهزيمة محققة، فدولة بلا مؤسسات فاعلة صارمة، ليست دولة، والسلطة التى تقوم بتحطيم مؤسسات الدولة، هي سلطة معادية للمجتمع، بل هي أخطر على المجتمع من عدوان خارجي. (8)

العبور الأول.. الانتصار الصعب

انهار نظام عبد الناصر بهزيمة 1967، وخلفه أنور السادات. كان السادات أقرب للسياسة منه للعسكرية، إذ لم يمكث في الجيش طويلا، فقد خرج منه بعد أن حصل على رتبة رائد، وبعدها تمرَّس في العمل السياسى والصحفى لمدة عشرين عامًا حتى صار رئيسًا لمصر (9)

بعد أن حسم السادات صراعاً قصيراً على السلطة، وجد نفسه أمام تحديات:

  1. تسوية مع إسرائيل لتحرير أرض مصرية محتلة منذ 1967
  2. تململ الشعب المصرى من سياسة القمع التي اتبعها عبد الناصر
  3. تغلغل الشيوعية في مفاصل الدولة، وانتشار مظاهرها بين الشباب،

فبدأ السادت حكمه بقدر من الانفتاح السياسى والحرية النسبية، حيث أفرج عن الإخوان المسلمين، وطرح دستور 1971، وفيه أعلن عن دولة المؤسسات وسيادة القانون، وفيه كذلك أعلن – في المادة الثانية منه – عن أن الشريعة الإسلامية مصدر رئيسى للتشريع، كما طرح لأول مرة حديثاً عن التعددية السياسية.

وهكذا أعاد السادات الاعتبار للهوية الإسلامية، وقلص من مظاهر الهيمنة الشيوعية، وسمح بحرية التعبير في الجامعات، فلم تعد الجامعات حكراً على التيار الشيوعى أو الناصرى كما كان من قبل.. كل ذلك أحدث حالة من الهدوء والسلام المجتمعى.

وبعد أن استضاف عبد الناصر الفيلسوف الوجودي الملحد جان بول سارتر ليتحدث للمثقفين والشباب، متماشيا في ذلك مع الخط العام للحكم المخاصم للدين (10)

 وبعد أن كان عبد الناصر يحقِّر من علماء الدين، فيقول في احدى خطبه: "لو أعطيت رجل دين وزة سيفتي بما تريد"، انقلب الوضع في عهد السادات، فصارت سيارات الدولة تذهب بعلماء الأزهر ومنهم الشيخ محمد الغزالي إلى جبهات القتال بعد صلاة العشاء لوعظ القادة والضباط ثم يعود قبل صلاة الفجر ليصلي في المسجد، كما كان لعلماء الأزهر تصاريح خاصة حمراء اللون يتقدمون بها إلى خطوط القتال الأولى. (11)

وهكذا لم يعد المقاتل المصرى يشعر بذلك الاغتراب الذى كان يشعر به فترة حكم عبد الناصر، وعادت الهوية الإسلامية لشعب هو بطبيعته (محافظ) في الفكر والسلوك والتدين، فكان هناك نوع من السلام النفسى والسلم الأهلى لم يكن موجودا في فترة حرب 1956 أو حرب 67.

ولأول مرة يحدث إجماع نادر بين المصريين في حرب أكتوبر 1973، حيث التف المصريون حول جيشهم.. وكان لافتاً للنظر والاعجاب كذلك، أن سجلات الأمن العام في فترة حرب 73، ذكرت أن مؤشرات معدل الجريمة تراجعت تراجعا مذهلا خلال حرب أكتوبر، حتى أنه خلال اليوم الثاني للقتال وهو يوم ‏7‏ أكتوبر خلت مدينة القاهرة من جرائم النشل! (12)

الإعداد للحرب

في هذه الأجواء النادرة، بدأت خطة خداع استعدادا للحرب، بـــ :

  1.  استيراد مخزون استراتيجي من القمح: فلقد زادت مصر من الاحتياطي الاستراتيجي من القمح عن طريق تسريب معلومات بأن أمطار الشتاء أتلفت القمح في الصوامع.
  2.  إخلاء المستشفيات تحسبا لحالات الطوارئ: حيث نشرت جريدة الأهرام أنه أُكتشف تلوث مستشفي الدمرداش بميكروب، مما توجب إخلائه من المرضي لإجراء عمليات التطهير، وتخوفا من أن يكون التلوث قد وصل إلي مستشفيات أخري، فتم التفتيش علي بعض المستشفيات، وإخلاء البعض الآخر.
  3.  استيراد مصادر بديلة للإضاءة: تم التنسيق مع مهرب قطع غيار سيارات لتهريب صفقة كبيرة من المصابيح مختلفة الأحجام. وبمجرد وصول الشحنة، كان رجال حرس الحدود في الانتظار، واستولوا عليها كاملة، وتم عرضها بالمجمعات الاستهلاكية.
  4.  تدبير معدات العبور: سربت المخابرات تقريرا يطلب فيه الخبراء استيراد كمية مضاعفة من معدات العبور، مما أثار سخرية إسرائيل. وعندما وصلت الشحنة أُلقيت علي رصيف الميناء، في ظل إجراءات أمنية توحي بالاستهتار واللامبالاة، حتي نقلت سيارات الجيش نصف الكمية إلي منطقة صحراوية بضاحية (حلوان)، وتم تكديسها وتغطيتها علي مرمي البصر فوق مصاطب لتبدو ضعف حجمها الأصلي، فيما قامت سيارات مقاولات مدنية بنقل الكمية الباقية للجبهة مباشرة.
  5.  تسريح آلاف الجنود: صدر قرار فى يوليو 1972، بتسريح 30 ألفا من المجندين منذ عام 1967م، وكان معظمهم خارج التشكيلات المقاتلة الفعلية.
  6.  إخفاء نية إغلاق مضيق باب المندب: تم نشر خبر صغير، في شهر سبتمبر عام 1973، عن توجه ثلاث قطع بحرية مصرية إلي أحد الموانئ الباكستانية لإجراء أعمال صيانة دورية لها. وبالفعل تحركت القطع الثلاث إلي ميناء عدن، لترابط بعد ذلك فى ميناء عدن، فى نقاط تسمح لها بمتابعة حركة جميع السفن العابرة في البحر الأحمر راداريا، وتفتيشها، ومنع السفن الإسرائيلية من عبور مضيق باب المندب. (13)

فلم تبدأ الحرب بضربة من إسرائيل كما حدث في حرب يونيو 67، بل بدأت بضربة من الجيش المصرى، بخطة أحكم أكفأ قادة الجيش المصرى إعدادها.

ملحمة العبور

وكان الرئيس السادات قد حدد هدف الحرب وهو تحريك الوضع العسكري الميت وتحرير الأرض طبقا للامكانيات المتاحه علي مراحل متتاليه .(14)

وفى ضوء هذه الأهداف، بدأت أولى معارك هذه الحرب..

  • المعركه الأولي: العبور الى الضفة الشرقية.. (نجاح ساحق)

في مواجهة اقوي مانع مائي في العالم (قناة السويس) ، ومن خلفه ساتر ترابي يعادل ارتفاعه عمارة سكنيه من ست طوابق (خط بارليف)، متدرج من جهة الإسرائيلين، عمودى من جهة المصريين،  كانه حائط او سور ضخم بحيث يتعذر الصعود عليه بالمركبات بل بالاقدام، خلفه خزانات نابالم كبيرة بإمكانها اشعال مياه القناة بنيران يصل ارتفاعها إلى متر، وبدرجة حرارة تصل الى 700 درجة مئوية!

انطلق نحو 8 آلاف جندي مصري، على متن ألف قارب مطاطي لعبور القناة، وتحت غطاء من القصف المدفعي المدعوم بضربات جوية لأكثر من 300 طائرة مقاتلة مصرية، وبخراطيم مياه عالية الضغط، نحو الساتر الترابى،  استطاعوا فتح 80 ثغرة في خط بارليف. ليتمكّن نحو 80 ألف مقاتل من العبور إلى شرق القناة، وإقامة رؤوس جسور لها هناك (15)

وكان مقدر لهذا العبور نحو 20000 قتيل، لكن ماحدث كان معجزة، ففى خلال ثلاث ساعات عبر حوالى 30000 جندى، بعدد شهداء 285 شهيدا، و 5 طائرات، 20 دبابة! (16)

استغرقت عملية العبور أيام (6-8) أكتوبر، ثم تم ايقاف العمليات بقرار من القائد العام صباح 9 أكتوبر 1973.

  • المعركة الثانية: صد الهجوم الاسرائيلى المضاد.. (نجاح ساحق)

نجح الجيش المصرى فى صد الهجوم المدرع الإسرائيلي في ثالث أيام الحرب، حيث تمكن من تدمير اكثر من ثلاث لواءات مدرعه اسرائيليه علي امتداد خط الجبهه وأسر قائد اللواء 190 المدرع

  • المعركه الثالثة: تطوير الهجوم المصري.. (فشل كبير)

طورت مصر الهجوم يوم 14 أكتوبر، فكانت معركة الدبابات والتى فقدت مصر فيه 246 دبابة فى مقابل 20 دبابة للعدو، بما يعنى أنه كان قرارا خاطئا، بسبب فقدان مظلة الدفاع الجوى، فانكشفت الدبابات. فى نفس الوقت، تمكن العدو من الوصول إلى (الثغرة) ما بين الجيشين الثانى والثالث..

  • المعركة الرابعة: دفاع المقاومة عن السويس.. (منع كارثة محققة)

(الثغرة).. وأسئلة النصر الضائع

بقرار منفرد من السادات، ورغم اعتراض قائد الجيش الثانى سعد مأمون، وقائد الجيش الثالث عبد المنعم واصل،تم تطوير الهجوم المصرى شرقا! ليأتى فجر يوم 16 أكتوبر وقد انقلبت الموازين في ميدان المعركة، حيث نجح العدو فى العبور للضفة الغربية، واخترق دفاعاتنا عند الدفرسوار، دون أن يلقى أى مقاومة من قواتنا! .. فكان أول الأسئلة:

  1.  كيف نجح العدو في استدراج ألويتنا المدرعة، ودون حماية جوية؟!

فطبقا للقرار السياسي الذي أصدره السادات، بدأ الهجوم شرقا فجر يوم 14 أكتوبر، وكان على القوات المصرية أن تهاجم 900 دبابة معادية بقوة لا تزيد عن 400 دبابة، وفي المكان الذي اختاره العدوّ، وتحت سيطرته الجوية، وبعيدا عن حائط الصواريخ، كل ذلك تم بقرار سياسي يقول عنه الشاذلي بمرارة : (هل كان هذا القرار نتيجة الجهل أو المقامرة أو الخيانة؟ لقد نجح العدوّ في استدراج ألويتنا المهاجمة إلى مناطق قتال اختارها بعناية لقد فقدنا في هذا اليوم الأسود 250 دبابة، وهو رقم يزيد عن مجموع خسائرنا في الأيام الثمانية الأولى للحرب)

  1.  من الذى حال بين الجيش وبين الدفاع عن (الثغرة)؟ّ

فبرغم أن احتمال حدوث ثغرة عند التقاء الجيشين الثاني والثالث لم يكن أمرا خارقا بل كان متوقعا، وأن القيادة العسكرية اتخذت كل الاحتياطات لمواجهته، بحيث كانت مجموعة التدخل على علم بكل شجرة وبكل حجر وبكل حفرة في تلك المنطقة.. الا أن خلافاً حصل بين السادات وبين رئيس رئيس الأركان سعد الدين الشاذلى أدى في النهاية إلى تغيير موقع الفرقة المدرعة التي كانت مكلفة بالتدخل.

  1.  ماذا لو لم تدافع المقاومة الشعبية عن مدينة السويس؟!

بسبب الضغط الشديد من القوات الإسرائيلية في ثغرة الدفرسوار، اضطر السادات إلى طلب وقف إطلاق النار يوم 20/10، وقد صدر قرار بذلك من مجلس الأمن الدولي، ودخل حيز التنفيذ يوم 22/10، لكن في اليوم التالى مباشرة 23/10، اخترقت إسرائيل اتفاق وقف إطلاق النار، وحاصرت الجيش الثالث ومدينة السويس، وبهذا أصبح 60000 مقاتل تحت رحمة إسرائيل وأمريكا! (17)

ترك السادات مدن القناة دون حماية، فتصدي أهالي السويس العزل بقيادة الشيخ حافظ سلامة إمام مسجد الشهداء للجيش الإسرائيلي يوم 24 أكتوبر.

وهكذا انتهت حرب أكتوبر في 28/10/1973 بعد ثلاثة أسابيع من بدايتها، انتهت والجيش الإسرائيلي فى غرب القناة، وهو ما لم يستطع فعله حتى في 1967. وأصبح لأول مرة في تاريخ الصراع العربي الجيش الإسرائيلي يمكنه السير إلى القاهرة..

بدأت بعد ذلك مفاوضات فض الاشتباك بين الجيشين المصرى والاسرائيلى داخل الأراضى المصرية! في الكيلو 101 طريق القاهرة السويس! حيث ذهب محمد عبدالغني الجمسي، رئيس هيئة عمليات القوات المسلحة، 3 مرات إلى مكان الاجتماع ورفض الإسرائيليون دخوله (هذا في مصر) ، وكل مرة يبرق السادات لوزير خارجية أمريكا هنري كيسنجر ويشتكي. وفي المرة الأخيرة سمحوا له بالدخول بعد أن أتى بجاسوس إسرائيلي كان في السجون المصرية! (18)

  1.  هل كان هناك اتفاق بين السادات وكيسنجر تسبب في الثغرة؟!

بعد موت السادات اشتعل الجدل بخصوص الثغرة، اتهم الجمسي في لقاء تلفزيوني، الرئيس السادات بإفشاء أسرار عسكرية حين أرسل في اليوم الثاني من بدء معارك حرب 1973 برقية إلى وزير الخارجية الأمريكي هنري كيسنجر، أبلغه فيها أن مصر "لا تعتزم تعميق مدى الاشتباكات أو توسيع مدى المواجهة". وشدد الجمسي على أن تلك الرسالة ما كان يجب أن ترسل من رئيس الجمهورية، قائلا إنها "إفشاء لأسرار عسكرية للعدو".

ومبينا انزعاجه من مراسلات السادات وكيسنجر عبر مستشار السادات للأمن القومي حافظ إسماعيل، أكد الجمسي أنه لم يطلع على تلك المراسلات ولم يرها إلا بعد انتهاء الحرب. (19)

وبرغم تلك الاتهامات، لم يتم اجراء تحقيق مستقل لتحديد المسئولية عما حدث، ولم يتم كذلك الإفراج عن وثائق حرب أكتوبر إلى الآن!

  1.  لماذا ولحساب من، تم التنكيل بقادة حرب أكتوبر؟!

المنتصر فى الحرب لا يسمح بإهانة قادة حربه، كما لا يسمح للمهزوم بأن يفرض شروطه عليه.. لكن الوقائع على الأرض قالت غير ذلك:

  1.  أحمد بدوى

الفريق أحمد بدوي كان قائدا للجيش الثالث خلال الحرب، ثم صار وزيرا للدفاع بعدها. وبعد الحرب بثمانى سنوات، قُتل هو وثلاثة عشر من قادة الأفرع الرئيسية  فى مارس 1981 أثناء ركوبهم معا فى طائرة واحدة! وما زالت القضية الى الآن محل غموض!

  1.  سعد الدين الشاذلى

شغل منصب رئيس الأركان أثناء الحرب، فوضع خطة العبور وأسماها (المآذن العالية)،عزله السادات بعد اختلافه معه في حادثة الثغرة، حُوكم غيابيا في عهد مبارك عام 1983م، بثلاث سنوات مع الأشغال الشاقة، بتهمة إفشاء أسرار عسكرية في كتابه، ووضعت أملاكه تحت الحراسة! (20)

  1.  محمد الجمسى

ترأس هيئه العمليات أثناء حرب أكتوبر، وتولى إدارة الثغرة، وقاد مفاوضات مصر مع الجيش الاسرائيلى اثناء حرب أكتوبر، أتعب اليهود فى التفاوض كما أتعبهم فى القتال. في حوار لوزير الإسكان الأسبق المهندس حسب الله الكفراوي مع جريدة الشرق الاوسط ، قال:(طلب مني المشير الجمسى، بشكل شخصي، وأنا في الوزارة أن أساعده في «شغلانة».. واكتشفت أنه يريد مني أن أتوسط له في أن تقوم شركات المقاولات التي تتعامل معها الوزارة بإزالة بعض قوالب الطوب، مقابل نسبة صغيرة من المال سيحصل عليها من هذه الواسطة، وقتها بكيت وقلت: "يا خبر اسود.. المشير الجمسي وصلت به الحاجة إلى أن يسمسر في شوية طوب علشان يعرف يعيش». ثم توجهت على الفور إلى مبارك وطلبت منه أن يعينه مستشارا في أي جهة حكومية ويكفل له راتبا محترما كوزير دفاع سابق، لكن النتيجة أنه بعد هذا اللقاء بـ3 أيام كتبت الصحف أن مجموعة من «البلطجية» ذهبوا إلى شقة الجمسي المتواضعة وأوسعوه ضربا بهدف السرقة، ولما لم يجدوا شيئا انصرفوا، وقد كانت «علقة» تلقينية له حتى لا يتكلم مرة أخرى، لهذا آثر الصمت حتى مماته" (21)

هذا ما فُعل بثلاثة من أكبر قادة حرب أكتوبر 1973! في ذات الوقت الذى كان يُكرم فيه الفنانون ولاعبو الكرة!

هذا وجه واحد مما حدث لقادة انتصار أكتوبر، أما الوجه الآخر فكان أفجع، إذ كان يخص حصون الوطن نفسه.. فإسرائيل لم تعد عدوا! فبعد ست سنوات من الحرب، تم توقيع معاهدة سلام بين مصر واسرائيل فى مارس 1979، ليصبح العدو حليفاً! والأخ الحليف عدواً! وينطلق بعد ذلك قطار التطبيع من القاهرة إلى باقى الدول العربية!

وفي 2011، وبعد ثلاثين سنة من رحيل السادات، أدرك المصريون أن العبور الأول (73) لم يكن كافياً لاسترداد حق وكرامة وحرية الشعب المصرى، فقد ظلت السدود التي صنعها الحكام المستبدون حين غابت دولة القانون قائمة، فكان لابد من عبور ثان لتلك السدود والموانع، فكانت ثورة يناير 2011.

العبور الثانى.. واستعادة الدولة

قام الشعب المصرى بثورة يناير 2011.. فاستعاد الشعب المصرى الدولة، ولم يعد أحد يزور تاريخ نصر أكتوبر وينسبه لنفسه، كما فعل السادات ومبارك. ولم يعد أحد يهيل التراب على قادة الحرب كما مبارك، بل تم نسبة النصر إلى الشعب المصرى ومقاتليه البواسل وقادته العظام.

 ولأول مرة فى احتفالات نصر أكتوبر في عهد الرئيس الشهيد محمد مرسى عام 2012، ظهرت مشاهد لم تحدث على مدى ثلاثين عاما، وبعضها لم يحدث منذ تسعة وثلاثين عاما، حيق قام الرئيس مرسي بتكريم الرئيس محمد أنور السادات صاحب قرار الحرب، بعد أن تجاهل مبارك ذكره طوال ثلاثين عاما! (22)

كما قام بتكريم الفريق سعد الدين الشاذلى بقلادة النيل بعد تسعة وثلاثين عاما من الإهمال والنكران والإهانة والإذلال! الى الحد الذى دفع بزوجتى الرجلين الى البكاء اثناء تسلم الجائزة من الرئيس محمد مرسى (23)

وذهب الرئيس الى النصب التذكارى للشهداء، وقبر الرئيس الراحل محمد أنور السادات ليضع إكليلا من الزهور، وساعتها شهدت قرينة الرئيس الراحل السادات، جيهان السادات، بأن التكريم الذى لقيته من الرئيس محمد مرسى بعد الثورة لم تلقه منذ ثلاثين عاما (24)

وأراد الرئيس محمد مرسى أن يكون إحياؤه لنصر أكتوبر فى احتفال شعبى باستاد القاهرة، بدلا من أن يكون فى حفلات غنائية مع قادة الدولة. (25)

وتصحيحا لحالة التزوير التي ارتكبها نظام مبارك طوال ثلاثين عاما، عندما تم حذف صورة سعد الدين الشاذلى من جوار السادات، ووضع صورة مبارك بدلا منه! تم الإعلان – اثناء حكم الرئيس محمد مرسى – عن رد الأمور إلى نصابها، فقد كشف مصدر عسكرى رفيع المستوى أنه سيتم وضع صورة لغرفة عمليات القيادة، بدلاً من الصورة «المفبركة» التى تم تزييف وقائعها بحذف صورة الفريق سعد الدين الشاذلى واستبدالها بصورة الرئيس السابق حسنى مبارك. (26)

اختلف احتفال الدولة بعد الثورة بنصر حرب أكتوبر، عن احتفالات جمهورية الضباط (ناصر والسادات ومبارك)، مما دفع بالرئيس محمد مرسى الى أن يسمى ثورة يناير بـ (العبور الثانى)، الذي استرد به الشعب دولته، وطالب الرئيس مرسى المصريين بالاستعداد لـ (عبور ثالث) للبناء والتنمية، طارحا مشروح تنمية محور قناة السويس كبداية.. حيث قال فى ذكرى نصر أكتوبر 2012: "إن العبور الأول تمثل في حرب أكتوبر في العام 1973 ضد إسرائيل والثاني تجسد في ثورة 25 يناير 2011 التي أطاحت بالنظام المصري السابق".

وأضاف: "إنني أعلن من سيناء أننا في مصر الجديدة بحاجة إلى عبور ثالث وهو عبور للتنمية والإنتاج والأمن"، ثم عاد وأكد أنه "ولكي يتحدث عنا الأبناء والأحفاد لابد من العبور الثالث بتحقيق التنمية وهو ما لن يتأتى الا ببذل العرق والجهد". (27)

وإعتبر مرسى أن "المشروع التنموي لامتداد قناة السويس بأيد مصرية لكل المصريين يدشن للعبور الثالث بعد ثورة 25 يناير العظيمة" (28)

وقد طالب العميد صفوت الزيات المحلل العسكري المصري بكتابة التاريخ العسكري الحقيقي لحرب أكتوبر، وقال إن ذلك "لن يتم إلا عندما تصبح مصر دولة ديمقراطية، وعندما تصير العلاقة واضحة بين المدنيين والعسكريين، وعندما تكون المؤسسة العسكرية معرضة للمساءلة، وميزانيتها محل مناقشة ونقد، وعندما يُسمح بحرية تداول المعلومات كما يحدث في كافة الدول المتقدمة".

هذه الاشتراطات التي وضعها الخبير العسكري المصري لكتابة التاريخ الحقيقي لحرب أكتوبر، توقع أن تتحقق في مصر عقب المرحلة الانتقالية التي تلت ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011، والتي قد تستغرق فترة تتراوح بين 4 و5 سنوات، على حد تقديره"، لكن ذلك لم يحدث بسبب الانقلاب العسكري على الرئيس المدني المنتخب. (29)

كان المتصور انكشاف مزيد من الحقائق حول هذه الحرب، لو استمر حكم الرئيس مرسى، الا أن انقلاب 2013 أجهض الثورة، وحرم الشعب المصرى من معرفة حقيقة ما حدث.

المصادر:

1) دولة المؤسسات.. ما الذي تعنيه – يحى الجمل https://bit.ly/3VOemF1

2) عاطف السيد , ” عبد الناصر وازمة الديمقراطية : سطوة الزعامة وجنون السلطة “ , ( الاسكندرية : فلمنج للطباعة , 2002) , ص 241

3) محمدالسيدسليم,” التحليل السياسى الناصرى : دراسةفى العقائد والسياسةالخارجية “ , دكتوراه , (بيروت : مركز دراسات الوحدةالعربية , 1983)  https://democraticac.de/?p=34522

4) إسماعيل المصرى - الإلحاد والملحدون في مصر

المعهد المصرى للدراسات – 3/7/2020  https://bit.ly/3CHxGL2

5) من كتاب / المؤامرة الكبرى- دكتور مصطفى محمود

6) الفوضى والطغيان حليفان – الشنقيطى  https://bit.ly/3M2uaiT

7) كيف نكتب تاريخ حرب أكتوبر – خالد فهمى https://bit.ly/3fXMLRi

8) الدولة والمؤسسة – احمد برقاوى – البيان https://bit.ly/3sbkkSx

9) أنور السادات ما له وما عليه  https://bit.ly/3CAsiL7

10) الأزهر في قلب المعركة وعلماؤه على جبهة القتال  https://bit.ly/3CJJrSH

11) هكذا ساهم الأزهر فى انتصار حرب أكتوبر  https://bit.ly/3fB4EVQ

12) تراجع معدل الجريمة أثناء الحرب https://bit.ly/3eaSEda

13) محاور الإعداد الاستراتيجي لحرب أكتوبر https://bit.ly/3T6m23F

14) هل انتصرت مصر فى حرب أكتوبر؟ https://bit.ly/3EPAiti

15) ليس مجرد حاجز ترابي  https://bit.ly/3Vza8kf

16) كيف نكتب تاريخ حرب أكتوبر – خالد فهمى  https://bit.ly/3fXMLRi

17) حرب أكتوبر 1973: دراسة ودروس   https://bit.ly/3TdW7H9

18) عن حرب أكتوبر و«الانتصار الأسطوري»  https://bit.ly/3BxTBUx

19) اتهم السادات بإفشاء أسرار عسكرية  https://bit.ly/3D4u5Za

20) https://bit.ly/3E3e2f1

21) نهايات وزراء الدفاع في عهد الرئيس السابق كانت مؤسفة

https://bit.ly/3E3hPsL

22) جيهان السادات مرسى حقق لى ما لم يحققه مبارك فى 30 سنة

https://bit.ly/3D3r5uW

23) مصر تكرم الفريق الشاذلي - الرئيس مرسي و لحظه وفآء

https://bit.ly/3CYZjiP

24) الرئيس يضع إكليل زهور على قبرالرئيس الراحل السادات

https://bit.ly/3SorVbg

25) احتفالات اكتوبر مالم تراه في الاعلام - استاد القاهرة

https://bit.ly/3CTeH0p

26) أخيراً.. «البانوراما» تعيد الاعتبار لـ«الشاذلى» وتستبعد الصورة المفبركة  https://bit.ly/3Tru0En

27) مرسي يدعو المصريين إلى الاستعداد لـ «عبور ثالث» نحو الإنتاج والتنمية والأمن   https://bit.ly/3RH1QUc

28) مرسى: لدينا إمكانيات العبور للاستقرار والبناء https://bit.ly/3e99Bog

29) تاريخ حرب أكتوبر 73 لم يكتب بعد، https://bit.ly/3yM9Rk2