الأقلية المسلمة في جمهورية القرم الإسلامية
الثلاثاء - 21 سبتمبر 2021
القرم هي إحدى الجمهوريات السوفيتية السابقة على البحر الأسود في شرقي أوروبا، ويشكل التتار المسلمون الغالبية العظمى من سكانها.
الموقع والمساحة:
تقع شبه جزيرة القرم في جنوب أوكرانيا، يحدها من الجنوب والغرب البحر الأسود، ومن الشرق بحر آزوف، وكان اسمها فيما مضى "آق مسجد" أي "المسجد الأبيض"، قبل أن يستولى عليها الروس الشيوعيون.
وكلمة القرم تعني "القلعة " باللغة التتارية؛ وتتمتع القرم بموقع إستراتيجي هام.
تبلغ مساحة شبة جزيرة القرم 150، 26 كيلو مترا،
وهي اليوم جمهوريةٌ ذات حكم ذاتي ضمن دولة أوكرانيا؛ ويشكل الروس زهاء 50 % منهم، والأوكران 30 %، والباقي من التتار المسلمين الذين يعيشون حياة بائسة فقيرة، ويعانون من نسيان العالم الإسلامي لهم، فلا تضم بلادهم إلا مدرسة واحدة وسبعة مساجد من مجموع 1200 مسجد كانت هناك عام 1940، ثم هدمها الشيوعيون وحوَّلوا معظمها إلى مخازن ودور للسينما.
النشاط البشري:
يوجد بالقرم الكثير من الثروات الطبيعية، مثل: النفط، والفحم الحجري، والغاز الطبيعي، والنحاس، والحديد، والمنغنيز، والرصاص.
والثروة الزراعية مثل: القمح، والفواكه، والمياه المعدنية ذات الخاصية العلاجية التي جعلت منها واحدة من أفضل المشافي في العالم وتعتبر الزراعة حرفة أساسية وأهم الغلات القمح والشوفان والشعير، والبنجر السكري، وينتج العديد من الفاكهة والخضر.
الإسلام في شبه جزيرة القرم:
وصل الإسلام إلى القرم عن طريق التتار، وذلك في عهد القبيلة الذهبية، الذين يرجع نسبهم إلى " جوجي" الابن الأكبر لجنكيز خان، ولما مات جوجي قبل أبيه اقتطع جنكيز خان لولده " باتو" بلاد روسيا وخوارزم والوقوقاز وبلغاريا، وأُطلق عليهم القبيلة الذهبية أو مغول الشمال، وهي أول قبائل المغول في اعتناق الإسلام، ويعتبر " بركة خان" أول من أسلم من أمراء المغول، وذلك عام 650هـ وهو عائد من قرة قورم عاصمة دولة المغول الكبرى.
ثم بايع الخليفة العباسي المستعصم بالله في بغداد وأتم بناء مدينة سراي (مدينة سراتوف في روسيا الآن)، عاصمة مغول الشمال وبنى بها المساجد وجعلها أكبر مدن العالم في ذلك الوقت.
كانت دولة المغول المسلمة في بلاد القرم وما جاورها على علاقة طيبة مع دولة المماليك في مصر والشام، وكانا يقفان معا في حملات الجهاد ضد هجمات البيزنطيين.
بدأ الضعف يدب في دولة التتار المسلمين بعد عصر القوة الذي زاد على 120 عاما، نتيجة الصراع بين أبناء الأسرة الحاكمة وتفشي الظلم، فاستقل " الحاج شركس" في استراخان، واستقل " ماماي" ببلاد القرم، وزاد الضعف باجتياح " تيمور لنك "لمدينة سراي في مطلع القرن التاسع الهجري، مما أدى إلى تفتت الدولة الواحدة إلى خمس دول، هي : القرم، استراخان، خوارزم، قازان، سيبريا الغربية.، وهذا كله شجع الروس للوقوف في وجه التتار، الذين ظهر ضعفهم واضحا للعيان.
الاحتلال الروسي لبلاد القرم:
لمّا أصاب الدولة العثمانية الضعف في الجهة الشمالية، تمكن الروس من غزو شبه جزيرة القرم في سنة 1198هـ - 1783م، بعد أن قتلوا 350 ألف من مسلمي القرم. إن حقد الروس على بلاد القرم كبير، سواء كانت روسيا قيصرية أم شيوعية فالأمر واحد، إذ هي حرب على الدين.
تراوحت السيطرة الغربية على بلاد القرم بعد أن ضعفت الخلافة العثمانية بين روسيا الشيوعية وألمانيا النازية، فعندما قامت الحرب العالمية الأولى دمر الروس مدينة سيمفروبول، وقضوا على الحكومة التترية، غير أن الألمان تمكنوا من احتلال القرم من الروس، ثم انسحب الألمان بعد مدة.
سيطر الروس الشيوعيون على بلاد القرم بعد الألمان، وعندها أعلن التتار الجهاد والدفاع عن الدين، ورأى الشيوعيون أن حبل المقاومة طويل، فلجأوا إلى حرب التجويع، فجمعوا الطعام والأقوات من البلاد، ليموت المسلمون جوعا، وكان معدل موت المسلمين 300 نفس يوميا، وعندها فضّل المجاهدون لأنفسهم الموت من أن يصيب الناس ما أصابهم من بلاء بسبب اعتصام المجاهدين ومقاومتهم.
محنة المسلمين فى القرم:
بعد أن سيطر الروس على شبه جزيرة القرم قاموا بقتل 350 ألف مسلم تتاري، كما قاموا بنفي نحو 500 ألف مسلم بعيداً عن بلادهم وإحلال الروس مكانهم، ومع زيادة عمليات التهجير الإجباري أصبح مسلمو القرم أقلية في بلادهم مقابل أكثرية روسية تفوقهم في العدد والثروة.
ولقد مارست الجيوش الروسية المذابح ضد السكان الآمنين إلى درجة أن الجثث لم تجد من يدفنها، وانتشرت الأوبئة التي أودت بحياة القتلة الروس أنفسهم، إلا أن أبشع المذابح وقعت عام 1771م، عندما طبقت الجيوش الروسية المعتدية شعار: (من غير انتظار ولا عودة يجب محو التتار من هذه الأرض)، وقتل في تلك المذابح أكثر من 350 ألف تتري.
ومارست روسيا القيصرية شتى ألوان القهر والتعذيب ضد شعب التتار، وصادرت أراضيهم ومنحتها لمواطنيها، وصادرت مساجدهم ومدارسهم، واضطُرَّ زهاء مليون وعشرين ألفاً منهم أن يفرُّوا إلى تركيا، وقامت روسيا بتهجير الباقي إلى داخل المناطق الخاضعة لها؛ وذلك تطبيقاً لاقتراح الأمير الروسي "منشكوف"، وعندما فشل الروس في زراعة أراضي القرم التي صادروها من أهلها التتار؛ وذلك لعدم خبرتهم بها أجَّروها مرةً أخرى لهم لكي يزرعوها لهم.
المسلمون والثورة الشيوعية:
وعندما قامت الثورة البلشفية أذاع الشيوعيون بيانات كثيرة أكدوا فيها أنهم سيعاملون المسلمين في روسيا كافة معاملة الشركاء في الثورة إن هم ساعدوهم في ثورتهم ضد القياصرة الروس، بل وعدوا بتقرير حق المصير للجمهوريات الإسلامية، بمعنى منح الاستقلال عن روسيا لمن يرغب في ذلك، لكن الشيوعيين ما إن تمكنوا من تحقيق مأربهم حتى كشفوا القناع المزيَّف عن وجوههم وأفصحوا عن نيَّاتهم الخبيثة ضد المسلمين في روسيا عموماً ومسلمي القرم خصوصاً، حيث قاموا بمهاجمة جمهورية القرم التي أعلنت استقلالها واعترفت بها بعض الدول وتبادلت معها السفراء، وكان ذلك بناء على الوعود التي منحها البلاشفة لهم خلال الثورة بهدف استمالتهم إلى جانبهم في صراعهم مع القياصرة، واستطاع الروس البلاشفة بسط سيطرتهم على جمهورية القرم المسلمة بالقوة بعد هجمات متتالية في أعوام 1918 و1919 و1920م، وتعاملوا مع مسلمي القرم بمنتهى القسوة، حيث نصبوا لهم المذابح وشرَّدوهم من ديارهم.
ففي عام 1920م وبعد الثورة الشيوعية في موسكو أعلن تتار القرم عن قيام جمهوريتهم المستقلة برئاسة "نعمان حيجي خان"، إلا أن الشيوعيين سرعان ما أسقطوا الحكومة، وأعدموا رئيس الجمهورية وألقوا بجثته في البحر.
القرم أثناء الحرب العالمية الثانية:
في الحرب العالمية الثانية احتدمت المعركة بين الروس والألمان على أبواب القرم، وظن التتار أن الألمان سيكونون أرحم عليهم من الروس المجرمين، فقرروا الاستسلام لهم انتقاما من الروس، ولم يدر في خلدهم أن الكفر ملة واحدة، وأن عداوة النصارى موجهة للإسلام والمسلمين، فما إن علم الألمان أن المستسلمين من التتار المسلمين حتى نزعوا منهم السلاح وساقوهم حفاة 150 كيلو مترا سيرا على الأقدام ودون طعام، وبدأ المسلمون يموتون جوعا، ثم أخرجوهم من السجن وأبادوهم رميا بالرصاص.
وهزمت ألمانيا في الحرب، وعاد المستعمرون الشيوعيون إلى القرم، واتهم الروس التتار أنهم من أعوان الألمان، فدخل الشيوعيون العاصمة (باغجه- سراي)، وطمسوا معالم الإسلام فيها، حتى دكوا المساجد الأثرية، مثل: جامع خان، وجامع بازار، وجمعوا المصاحف وأحرقوها في الميادين العامة، فكان مجموع ما هدمه السوفييت 1558 مسجدا في شبه جزيرة القرم، والعديد من المعاهد والمدارس، وأقاموا مكانها حانات للخمر وحظائر للماشية ودور للهو.
إلغاء جمهورية القرم:
وأصدر مجلس السوفييت الأعلى قرارًا في 20 يونيو 1946م بإلغاء جمهورية القرم ذات الاستقلال الذاتي وإلحاقها بأوكرانيا، وذلك - كما ورد في القرار- لخيانة شعب القرم لدولة اتحاد الجمهوريات السوفييتية الاشتراكية، وفي عام 1967م ألغى مجلس السوفييت الأعلى قراره السابق باتهام شعب القرم بالخيانة، ولكنه لم يسمح لهم بالعودة إلى وطنهم.
وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي، وإعلان غورباتشوف آخر زعيم للاتحاد السوفييتي برنامجه الإصلاحي عام 1985م تحت شعار إعادة البناء بريسترويكا"، بدأ المسلمون التتار رحلة العودة إلى بلادهم في شبه جزيرة القرم التي أصبحت جزءاً من أوكرانيا ولكن بلا أي حقوق.
ويقدَّر عدد الذين عادوا منهم بزهاء ثلاث مئة ألف شخص يعيشون في ديارهم عيشة بائسة وسط ظروف مأساوية بالغة الصعوبة، حيث يخيِّم عليهم شبح المجاعة، ومات عشرات الألوف بسبب الجوع، وإضافة إلى الجوع والتشرُّد وعدم وجود مأوى لهولاء العائدين، فهم يعانون من إهمال الحكومة الأوكرانيَّة لهم وعدم منح الجنسية الأوكرانية لأي عائد ليس له منزل، ومن يبني منزلاً دون ترخيص حكومي -الذي يعد الحصول عليه من المستحيلات- يُهدم منزله ويُترك هو بلا مأوى، وهذا قد انعكس على أوضاعهم الصحية والاجتماعية، حيث تفشَّت بينهم الأمراض وخاصة الأطفال، حيث يعد 80% من أطفال القرم مصابين بأمراض فتَّاكة جرَّاء نقص المستشفيات والأدوية، وليس في القرم كلِّها سوى مستوصف واحد.
كما يعاني مسلمو القرم من جهل شديد بالدين الإسلامي لدرجة أن غالبيتهم لا يعرفون نطق الشهادتين، وعندما يرغب أحدهم في أداء الصلاة فإنه يخرج ورقة من جيبه وينظر فيها كي يعرفَ ترتيب الحركات في الصلاة، وقد تقلَّص عدد المساجد في جزيرة القرم، حيث كان عددها سنة 1940م 1200 مسجد، ليصل بعد حرب الإبادة والتشريد التي شنَّها الشيوعيون على أهالي القرم إلى سبعة مساجد فقط تعاني التصدُّع والإهمال، كما ليس ثَمَّ إلا مدرسة دينية واحدة فيها عدد من المدرِّسين الأتراك الذين يعلِّمون القرآن الكريم.
تناقص عدد المسلمين:
هبط عدد التتار من تسعة ملايين نسمة تقريباً عام 1883م إلى نحو 850 ألف نسمة عام 1941م؛ وذلك بسبب سياسات التهجير والقتل والطرد التي اتبعتها الحكومات الروسية سواءً في عهود القياصرة أو خلفائهم البلاشفة، وتكفَّل ستالين بتجنيد زهاء 60 ألف تتري في ذلك العام لمحاربة النازيين، في حين هجَّر النازيون عند استيلائهم على القرم زهاء 85 ألف تتري إلى معسكرات حول برلين؛ وذلك للاستفادة منهم في أعمال السُّخرة.
واتهم ستالين التتار المسلمين بالتعاون مع النازيين الألمان في الحرب العالمية الثانية، فقام في مايو 1944م بتهجير أكثر من 400 ألف تتري في قاطرات نقل المواشي إلى أنحاء متفرِّقة من الاتحاد السوفييتي خاصة سيبيريا وأوزبكستان، وقد قضى نحو 14 ألفاً منهم نحبهم في القُطُر التي استُخدمت لتهجيرهم، كما توفِّي عام 1948 زهاء 45 ألفاً في المخيمات التي وُطِّنوا فيها بسبب المرض والجوع.
وقام الجنود الروس بحرق ما وجدوه من مصاحف وكتب إسلامية، وأعدموا أئمة المساجد، وحوَّلوا المساجد إلى دور سينما ومخازن.
كما أن مؤلَّفات المسلمين في ما قبل الشيوعية طُمست تقريباً، وما نجا منها صار نادر الوجود جداً، إلا أن إرادة المبدعين التتار استمرَّت فيما بعد القيصر، وفي أوائل عهد لينين استطاع التتار أن يُنتجوا أدباء ومفكرين جدداً، ولحسن الحظِّ فإن الشيوعية لم تقمعهم في بادئ الأمر فعادت الصِّحافة وعاد الأدباء وإن كان ذلك لمدة وجيزة.
مجلس أعلى لتتار القرم :
عندما أعلنت أوكرانيا استقلالها رسميًّا عن الاتحاد السوفييتي في ديسمبر من عام 1991م، وافقت السلطات الأوكرانية رسميًّا إعطاء شبه جزيرة القرم حكمًا ذاتيًّا ضمن أوكرانيا وذلك في يونيو 1992م. وعقد تتار القرم مؤتمرهم الأول في في 26 حزيران (يونيو) 1991م في مدينة سيمفروبل عاصمة الإقليم وذلك في يونيو من العام نفسه، وأسسوا المجلس الأعلى لتتار القرم كممثل للشعب التتاري المسلم ، وانتُخب المناضل التتاري -الذي كان قد حُكم عليه بالسجن مدَّة 15 عامًا- “مصطفى جميل” رئيسًا للمجلس.
وبدأ مصطفى جميل نضاله من أجل الحصول على حقوق شعبه تحت شعار: لقد عادت إلينا شخصيَّتنا الإسلامية التي لا يمكن أن نفرِّط فيها، إننا مسلمون وسنبقى مسلمين، وسنعمل جاهدين على تعلُّم ديننا.
وفي شهر أيار (مايو) سنة 1999م تظاهر أكثر من 200 ألف مسلم في شوارع العاصمة الأوكرانية (كييف) مطالبين الحكومة الأوكرانية بتعويضات عما قامت به من قتل وهدم وتشريد للمسلمين أيام العهد الشيوعي، وضرورة إصلاح أوضاعهم المعيشية والاقتصادية وتوسيع دائرة عضويَّتهم في البرلمان، واستقبل الرئيس الأوكراني عقب المظاهرة زعماء المسلمين واستمع إلى مطالبهم ووعدهم بإجراء بعض الإصلاحات وتحسين أوضاع المسلمين المعيشية مع العمل على توسيع عضويتهم في البرلمان.
ويقدَّر عدد التتار اليوم في شبه جزيرة القرم بزهاء 262 ألف نسمة، ويعيش أكثرهم في ظروف بالغة الصعوبة والقسوة بلا خدمات ولا إعلام ولا تعليم؛ لأن معظمهم لا يحملون الجنسية الأوكرانية التي تعد أكبر العقبات التي تواجههم؛ حيث تشترط الحكومة الأوكرانية دفع مبلغ قدره مئة دولار للشخص الواحد للحصول على الجنسية، وهو مبلغ كبير إذا كان أفراد العائلة الواحدة ما بين 5 – 10 أفراد.