إعلام بلا تأثير... هكذا فقدت مصر قوتها في تشكيل الرأي العام

الاثنين - 7 أبريل 2025

  • دراسة:  دور الإعلام تراجع بشكل غير مسبوق في التأثير على الرأي العام بعد  "30 يونيو"
  • "الجزيرة ": 62% من المصريين لايصدقون وسائل الإعلام بعد اختفاء صحافة المعارضة
  • بعد ظهور"الصحفيين المطبلين: "تبني السردية الرسمية للنظام واختفاء دور القامات المؤثرة
  • احتكار الدولة للإعلام وفقدان المهنية والمصداقية وفرض الرقابة من أسباب تراجع التأثير
  • الهاتف يهزم التلفاز .. والمعارضون ينتزعون المصداقية بوسائل التواصل بعد كسرها التعتيم الرسمي

 

إنسان للإعلام- ملف خاص:

في بلدٍ كانت فيه الكلمة سلاحًا، والميكروفون منبرًا للتغيير، تراجع الإعلام المصري إلى الهامش، وفقد دوره التقليدي كمؤثر فاعل في تشكيل الرأي العام وصناعة القرار السياسي.

لم يأتِ هذا التراجع محض صدفة، بل كان نتيجة سلسلة من السياسات القمعية، والهيمنة الصارمة من الأجهزة السيادية على مفاصل المشهد الإعلامي، حتى باتت معظم المنصات مجرد أصداء لصوت السلطة، لا تعكس الواقع ولا تعبّر عن الناس.

وفي ظل هذا الانحدار، لم يقف الجمهور مكتوف الأيدي؛ بل اتجه بعقله وبحثه نحو منصات التواصل الاجتماعي والإعلام البديل، حيث وجد مساحة للتفاعل، ونافذة لعرض القضايا المسكوت عنها.

فهل أصبح الإعلام التقليدي في مصر مجرد ظلٍ باهتٍ لما كان عليه سابقا؟ وكيف تحولت أدوات التأثير من غرف الأخبار إلى أزرار الهواتف الذكية؟ وما الذي خسره الإعلام حين اختار أن يكون تابعًا لا مبادرًا؟

في هذا الملف، نفتح جراح الإعلام المصري، ونفكك أسباب أفوله، ونرصد كيف أصبح الفضاء الرقمي بديلاً شعبياً ومصدراً أكثر تأثيرًا وموثوقية.

فقدان التأثير في الرأي العام

طرحت ورقة بحثية صادرة عن المركز المصري للفكر والدراسات، نُشرت في وقت سابق، بعنوان "الإعلام وقيادة الرأي العام"، قضية تراجع دور الإعلام المصري في التأثير على المجتمع.

وأكدت أن الإعلام يُفترض أن يكون منبرًا لقيادة الرأي العام، إلا أن واقع الإعلام المصري، بمختلف وسائله، يواجه تحديات ومشكلات مهنية جعلته غير قادر فعليًا على أداء هذا الدور.

كما أشارت إلى أن الإعلام العربي يعاني من تحديات مشابهة، في الوقت الذي يدرك فيه الجميع أن المجتمعات العربية مستهدفة إعلاميًا فيما يُعرف بـ"حروب المعلومات" التي يشنّها أعداء أمتنا.

أضافت الورقة البحثية أن الإعلام المصري والعربي كان من المفترض أن يؤدي دورين أساسيين لا غنى لأي مجتمع عنهما: أولهما إبلاغ المجتمع بما يجري، متحريًا الدقة والصدق في نقل الأخبار، وثانيهما أداء وظيفة تنويرية من خلال طرح كافة البدائل المتاحة للتعامل مع القضايا المختلفة، ونقل جميع وجهات النظر المطروحة بشأنها. وأكدت أن القيام بهذين الدورين يتطلب الاعتماد على المهنية والموضوعية، وهما معياران لا يُثار حولهما جدل بين المهتمين والعاملين في مجال الإعلام، فغيابهما يُفقد الإعلام ثقة الرأي العام فيما يقدمه، ويؤدي في النهاية إلى انصراف الجمهور عنه.

وأشارت الورقة إلى أن المشكلة الرئيسية للإعلام المصري تمثلت في التمادي بلعب الدور الذي فرضته مقتضيات الواقع عليه بعد 30 يونيو، حيث استمر في أن يكون طرفًا أساسيًا في العملية السياسية، بدلًا من أن يكون مراقبًا للمشهد، ينقل ما يحدث ويعرض وجهات النظر المختلفة بشأنه.

وأوضحت الدراسة أن أسوأ صور طغيان الدور السياسي للإعلام على دوره المهني بعد 30 يونيو تمثلت في تغليب اعتبارات المصلحة الشخصية الضيقة، سواء لبعض الإعلاميين، أو ملاك القنوات والصحف، أو القوى السياسية المختلفة، على حساب الصالح العام.

 ونتيجة لذلك، تفرغت العديد من وسائل الإعلام لإدارة معارك شخصية وهامشية، ومحاولات "شيطنة" المختلف، وإثارة قضايا لا طائل منها، مقابل إهمال القضايا التي تهم وتشغل المجتمع، أو على أقل تقدير، سوء تناول تلك القضايا.

وختمت الورقة بالتأكيد على أن فقدان الإعلام لدوره القيادي في تشكيل الرأي العام لا يعود فقط إلى تراجع مهنيته، بل إلى ما نتج عن هذا التراجع أيضًا. فمن جهة، تراجعت قدرته على التعبير عن حالة التغيير والإصلاح في الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وعلى خلق بيئة داعمة تسهّل مهمة الإصلاح، ومن جهة أخرى، تورّط الإعلام في المشاركة، بشكل مباشر أو غير مباشر، في تسويق القيم والمفاهيم السلبية، ونشر الشائعات التي تهدد المجتمع والدولة معًا.

 ومن ثم، بدا للجميع أن الإعلام "عاجز" عن الانتقال إلى مرحلة من "الرشد"، يكون فيها منبرًا حقيقيًا لتنوير الرأي العام، لا مجرد ناقلٍ آني للأحداث، بل ساعيًا لجعل الرأي العام أكثر وعيًا ورشدًا في تعاطيه مع قضاياه السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بعيدًا عن التلاعب به[1].

والطبيعي أن تلعب وسائل الإعلام المهنية دورًا محوريًا في تشكيل الوعي المجتمعي وتوجيه الرأي العام في أي دولة، حيث أكدت الدراسات العالمية أن أكثر من 70% من المجتمعات البشرية تعتمد على وسائل الإعلام كمصدر رئيسي للأخبار والمعلومات.

 وأظهرت الدراسات أن 83% من الشباب في العالم يتأثرون بشكل كبير بما تعرضه وسائل الإعلام المهنية، وتبين أن الإعلام يُستخدم كأداة فعالة لتوجيه الآراء بنسبة تصل إلى 60% في القضايا الجدلية، وتُعد الصحافة رافدًا أساسيًا في هذا التأثير.

لهذا، ولكي تتمكن وسائل الإعلام في مصر من أداء دورها في التأثير على الرأي العام، كان من المهم التزامها الكامل بالمعايير المهنية، ونشر المعلومات الدقيقة، والتعرض بشفافية لمختلف القضايا التي تشغل الرأي العام، وخلق حوار مجتمعي بنّاء حولها للخروج من الأزمات، وهو ما فقده الإعلام المصري خلال أكثر من عقد مضى، في ظل سياسات قمع الحريات الصحفية، وفرض الشمولية الإعلامية، وانتهاج سياسات الصوت الواحد[2].

فقدان التأثير في القرار السياسي

أكدت ورقة بحثية صادرة عن موقع "الإعلام التكنولوجي"، بعنوان "وسائل الإعلام ودورها المحوري في تشكيل الرأي العام وصناعة القرارات السياسية"، أن وسائل الإعلام كانت في الماضي تلعب دورًا حاسمًا في تشكيل مواقف الجمهور تجاه القضايا السياسية، وذلك من خلال التقارير الإخبارية، والمقالات التحليلية، والمقابلات مع الخبراء، مما كان له تأثير مباشر وجاد في القرارات السياسية للدولة المصرية.

أضافت الورقة أن العلاقة بين الإعلام والسياسات الحكومية علاقة معقدة ومترابطة، فمن المفترض أن يسعى الإعلام إلى مراقبة الأنشطة الحكومية، وكشف الفساد، والتأثير على القرارات السياسية عبر نشر تقارير استقصائية، الأمر الذي يُسهم بفعالية في صياغة القرار السياسي المصري، إلا أن هذا الدور شهد تراجعًا ملحوظًا خلال العقد الماضي، حيث فقد الإعلام كثيرًا من مصداقيته لدى الجمهور نتيجة التزامه الكامل بالسردية الحكومية، ما جعله تابعًا للسلطة، بدلًا من أن تكون العلاقة بين الحكومة والصحافة علاقة تتراوح بين التعاون والمواجهة، كما هو مفترض، ويكون لها تأثير جوهري على كيفية اتخاذ القرارات السياسية، ونتيجة لذلك فقدت الصحافة والإعلام المصري هذا الدور الإيجابي[3].

وفي السياق ذاته، أكدت دراسة أعدها موقع "الجزيرة نت"، بعنوان "دور وسائل الإعلام في تشكيل اتجاهات الجمهور المصري نحو الأحزاب السياسية"، أن الصحافة والإعلام المصري لعبا دورًا كبيرًا في التأثير على الحياة السياسية والحزبية، وعلى القرارات السياسية، في أعقاب ثورة 25 يناير، مستفيدين من مناخ الحريات العامة والصحفية الذي ساد آنذاك.

وقد تجلى هذا التأثير خاصة في ما يتعلق بتشكيل الأحزاب السياسية، حيث ساهم الإعلام في ظهور العديد من الأحزاب ذات التوجهات المختلفة، والتي امتلكت صحفًا حزبية أسهمت بدور مهم في تشكيل اتجاهات الجمهور المصري وصورته الذهنية تجاه تلك الأحزاب، بما انعكس على تأثيرها وقوتها في الشارع المصري.

وأضافت الدراسة أن المشهد الإعلامي في مصر دخل مرحلة جديدة بالغة الخطورة بعد الثلاثين من يونيو 2013، وما أعقبه من الإطاحة بالرئيس محمد مرسي؛ فمنذ ذلك التاريخ، تحول الإعلام بشكل واضح إلى أداة صريحة في الصراع السياسي بين السلطة الجديدة من جهة، وجماعة الإخوان المسلمين والمعارضين للانقلاب من جهة أخرى.

وأكدت "دراسة الجزيرة" أن نتائج استطلاعات الرأي التي أُجريت على عينة كبيرة من الجمهور المصري أظهرت فقدان الإعلام المصري لدوره في التأثير على الرأي العام وعلى القرار السياسي، مشيرة إلى أن الإعلام بات تابعًا أمينًا للنظام الذي تولى الحكم بعد 3 يوليو 2013.

كما أظهرت النتائج أن نسبة كبيرة من عينة الدراسة تتجه لمتابعة الأخبار السياسية عبر القنوات التلفزيونية والصحف والمواقع الإلكترونية الخاصة والمستقلة والمعارضة.

وبيّنت الدراسة أن أكثر من 41.6%  من المبحوثين يعتمدون بدرجة كبيرة على وسائل إعلام غير مصرية لبناء معرفة سياسية حول الأحزاب والمواقف السياسية في مصر، في حين أكد 60.8%  من المبحوثين أنهم لا يصدقون ما تقوله وسائل الإعلام المصرية عن الحياة السياسية والحزبية.

وأضافت الدراسة أن غالبية المبحوثين، بنسبة 62%، لا يثقون في الخطاب الإعلامي المصري منذ ما بعد 30 يونيو 2013 وحتى اليوم.

أما تقييم المبحوثين للأداء السياسي للأحزاب المصرية بعد هذا التاريخ فجاء كالتالي: "أداء ضعيف" في المقدمة بنسبة 44.4%، تلاه "أداء ضعيف جدًّا" بنسبة 38.4%، ثم "أداء متوسط"  بنسبة 12.8%، فيما جاء "الأداء الجيد" في المرتبة الأخيرة بنسبة 4.4%  فقط.

وختمت الدراسة بالتأكيد على أن الصحافة والإعلام المصري يعيشان أسوأ مراحلهما، وأنهما تراجعا بشكل كبير في التأثير على الحياة السياسية، والقرار السياسي، والمشهد الحزبي، حيث أدى فقدان المهنية والشفافية إلى فقدان ثقة الجمهور، ودفع بالإعلام المصري إلى "سلة مهملات" الوعي العام.[4]

اعتراف رسمي بتراجع تأثير  الإعلام

عدم تأثير الإعلام والصحافة المصرية في الشارع المصري لم يكن مجرد ملاحظة من المتابعين أو المهتمين بالشأن الإعلامي، بل شكوى صريحة عبّر عنها قائد الانقلاب، عبد الفتاح السيسي نفسه، حيث أقر بأن هذا النوع من الإعلام غير قادر على إيصال الرسائل التي يستهدفها نظامه.

ومنذ مطلع عام 2017، بدأ السيسي يهاجم الإعلام المصري بشكل متكرر، وبلغت هذه الانتقادات ذروتها في عام 2019، حين أعلن بشكل واضح عدم رضاه عن أداء الإعلام، مشيرًا إلى أن الدولة المصرية تتعرض لحرب إعلامية شرسة، وأن الإعلام المحلي عاجز عن مواجهتها، واصفًا إياه بـ"المقصّر".

غير أن السيسي تجاهل، في تصريحاته، أن هذا الإعلام الموجَّه هو نتاج مباشر لسياسات وتوجيهات سلطته، التي أفرغته من مضمونه المهني، عبر السيطرة الكاملة على خطابه وتوجيهه من قبل الأجهزة السيادية، ما أفقده ثقة الجمهور المصري بالكامل، فقد أصبح الإعلام أداة موجهة، وأبواقًا تُدار من قبل ضباط يتولون توجيه الرسائل من خلال أجهزة الهاتف المحمول، وتحديدًا عبر هاتف "سامسونج"، الذي باتت رمزًا لما يطلق عليه "إعلام التعليمات".

إن هيمنة الضباط على القنوات التلفزيونية والمحتوى الإعلامي الذي يُبث، تجعل من اتهام الإعلام بالتقصير نوعًا من التناقض والافتراء، فالقائم الحقيقي على الاتصال هو الإدارة العسكرية التي تمسك بخيوط الإعلام المصري بكافة أشكاله، بغض النظر عن ملكيته، سواء كان محسوبًا على القطاع الخاص، أو ينتمي إلى المعارضة الشكلية، أو الإعلام الحكومي الرسمي[5].

وقد فرض هذا الضعف في التأثير الإعلامي نفسه على أداء البرلمانات التي جاءت في عهد السيسي، حيث أقر عدد من نواب مجلس الشيوخ بانعدام تأثير الإعلام المصري وتراجع دوره في المجتمع، مشيرين إلى أن معظم المصريين قد انصرفوا عنه.

 وقد عبّرت لجنة الإعلام بمجلس الشيوخ عن تحفظها الشديد إزاء تراجع دور المنابر الإعلامية في وقت تتسع فيه رقعة الأمية المجتمعية، وتتزايد فيه التحديات الراهنة، ما يدفع الناس للجوء إلى الإعلام البديل، لا سيما المعارض منه، والذي يُبث من الخارج. كما اعترف أعضاء اللجنة بعدم قدرة الإعلام المصري على التأثير داخل المحيط الإقليمي، الأمر الذي يعكس مدى تراجع مكانته وفعاليته خارج الحدود أيضًا.[6]

مظاهر عدم تأثير الإعلام في الجمهور  

ويمكننا أن نجمل مظاهر ضعف تأثير الإعلام المصري في الرأي العام من خلال عدة جوانب رئيسية، تتمثل في النقاط التالية:

  • انتشار الأخبار المغلوطة والمضللة: حيث أدمنت وسائل الإعلام المصرية نقل معلومات غير دقيقة، أو تبنّت سرديات حكومية تتناقض مع الواقع الذي يعيشه المواطن المصري.

وقد أدى ذلك إلى فقدان الثقة في مصداقية الإعلام، وهو ما أضعف تأثيره على الرأي العام، كما أن هذا النوع من الأخبار يثير الشكوك، ويُسهم في تعميق الانقسامات بين الجمهور.

  • تزايد الاعتماد على وسائل التواصل الاجتماعي: من أبرز مظاهر تراجع تأثير الإعلام المصري لجوء أغلب المصريين إلى منصات التواصل الاجتماعي مثل "فيسبوك"، "إكس"، و"يوتيوب" للحصول على المعلومات، بدلاً من الاعتماد على الإعلام التقليدي. إذ توفّر هذه المنصات مساحة أوسع للتفاعل والمشاركة، وهو ما يقلّص من حضور وتأثير الإعلام الرسمي في تشكيل الرأي العام.
  • انخفاض مستوى النقاش العام والتحليل الموضوعي: في ظل سياسات الصوت الواحد، فقدت البرامج الحوارية والحوارات الصحفية طابعها التعددي، حيث غابت عنها الأصوات المخالفة لرؤية النظام، وأصبح الخطاب الإعلامي يفتقر إلى التحليل الموضوعي والنقاش الحقيقي والتنوع.
  • زيادة الانقسام السياسي: ساهمت وسائل الإعلام المصرية في تعميق الانقسام السياسي داخل المجتمع، من خلال خطاب متباين ومفصول عن واقع الناس.

وقد ساهم هذا في فقدان الإعلام لقدرته على التأثير في الرأي العام بشكل موحد، بل وأصبح في بعض الحالات عاملاً مفاقمًا لحالة الاستقطاب والانقسام المجتمعي.

  • العزوف عن الإعلام التقليدي: هناك تراجع ملحوظ في نسب المشاهدة للقنوات المحسوبة على النظام، كما شهدت الصحف المصرية تدهورًا حادًا في توزيعها، حتى أصبحت عاجزة عن توزيع 250 ألف نسخة يوميًا، في سابقة لم تشهدها الصحافة المصرية من قبل.
  • توجهات الجمهور نحو الإعلام البديل: يتجه قطاع كبير من المصريين نحو الإعلام المعارض والمستقل، سواء داخل مصر أو خارجها، كما بات العديد من المواطنين يعتمدون على المدونات، والمواقع الإخبارية المستقلة، ومنصات الإنترنت المختلفة، لمتابعة الأخبار والتحليلات بعيدًا عن الإعلام الرسمي، وهذا التحوّل يعكس بوضوح مدى تراجع الثقة في الإعلام التقليدي.[7]

أسباب تراجع الثقة في الإعلام المصري

ويمكننا أن نُجمِل الأسباب التي أفقدت الإعلام المصري، بمختلف وسائله، خاصية التأثير في الرأي العام المصري، وصناعة القرار السياسي، فضلًا عن التأثير في المحيطين الإقليمي والعالمي، في العوامل التالية:

  • فقدان المهنية: فقد الإعلام المصري على مدار العقد الماضي معاييره المهنية في التغطيات والمعالجات الإعلامية، وأصبحت هذه التغطيات أسيرة لتوجيهات الأجهزة السيادية، التي باتت تسيطر بشكل كامل على ملكية معظم وسائل الإعلام في مصر.
  • انعدام المصداقية والشفافية: يفتقد الإعلام المصري للمصداقية والشفافية في نقل الأحداث للجمهور، إذ أن غالبية معالجاته تتعارض مع الواقع المصري ومعاناة المواطنين، وهو ما أفقده تأثيره في الشارع المصري إلى حدٍّ كبير.
  • ضعف التحليل النقدي للأحداث: التزام الإعلام والصحافة المصرية بالسردية الرسمية جعله يقدّم الأحداث والوقائع بطريقة سطحية ومسيّسة، دون تقديم تحليلات نقدية عميقة وشاملة، وهذا الافتقار للعمق في الطرح أدى إلى فتور اهتمام الجمهور بمحتواه.
  • انعدام التنوع في المحتوى الإعلامي: تراجع التنوع في محتوى الصحف والفضائيات، مع تبنّي خطاب سياسي موحد ووجهات نظر محددة، مما عزز من حالة التشويش والتشكيك لدى الجمهور، وقلل من فاعلية الرسائل الإعلامية.
  • الرقابة المشددة على الإعلام: فرضت الدولة المصرية، عبر أجهزتها، رقابة صارمة على وسائل الإعلام، سواء بشكل مباشر أو من خلال ضغوط سياسية، ما أسفر عن تغييب الرأي الآخر، ومنع التغطية المتوازنة للقضايا الوطنية، وقد ساهم ذلك في تآكل ثقة الجمهور.
  • أزمة الثقة في وسائل الإعلام: تراجعت الثقة في الإعلام الرسمي نتيجة التغطيات المغلوطة أو غير الدقيقة لبعض الأحداث، وغياب المعلومات المحايدة والموضوعية، مما أدى إلى ضعف تأثير الإعلام على الرأي العام.
  • الاحتكار الإعلامي: أدت هيمنة كيانات إعلامية محسوبة على النظام العسكري على المشهد الإعلامي إلى تركز السيطرة في أيدٍ محدودة، مما أضعف التنوع والتعدد في الآراء، وقد ساهم هذا الاحتكار في تعميق الانقسامات السياسية، وأفقد الإعلام استقلاليته وقدرته على التأثير.
  • التأثيرات السياسية المباشرة: أصبح الإعلام المصري مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بالسياسات الحكومية، وهو ما أفقده قدرته على التأثير الموضوعي والمستقل في الرأي العام.

وقد ساهمت هذه العوامل مجتمعة في تراجع تأثير الإعلام المصري في تشكيل الرأي العام، لا سيّما في ظل الانفتاح التكنولوجي، وتوفر بدائل إعلامية حرة عبر منصات التواصل الاجتماعي، تتيح تفاعلاً مباشرًا بين الأفراد[8].

وفي هذا السياق، اعترف عدد من الرموز المحسوبة على نظام السيسي بهذه الأسباب، وفي مقدمتهم الصحفي مجدي الجلاد، رئيس تحرير مؤسسة "أونا للصحافة والإعلام"، الذي أشار في حوار صحفي نُشر مؤخرًا إلى أن الإعلام المصري، سواء المقروء أو المسموع أو المرئي، ارتكب "خطايا" بحق نفسه، لا مجرد أخطاء. وأوضح أن القضاء على التنوع في الآراء وتداول المعلومات الحقيقية، وغياب التواصل الفعّال مع الجمهور، يمثل "قتلًا لجوهر الإعلام".

وأضاف الجلاد أن الإعلام الحقيقي يجب أن يكون وعاءً للحوار الوطني، وداعمًا للوعي العام، ينشر الحقيقة دون فرض وصاية على المتلقي. وتابع قائلًا: "للأسف، ما يحدث في مصر بعيد تمامًا عن هذا المفهوم".

كما حدّد الجلاد ثلاثة أسباب رئيسية وراء فشل الإعلام المصري في التأثير على الرأي العام:

  1. هيكل الملكية الغامض: حيث لم يعد واضحًا من يملك وسائل الإعلام أو كيف تُدار، في ظل هيمنة كيان واحد يُقدّر أنه يمتلك نحو 80% إلى 85% من المؤسسات الإعلامية.
  2. تحوّل الإعلام إلى صوت واحد: هذا الانحراف نحو الرأي الأحادي أدى إلى عزوف الجمهور عن الإعلام المصري، ودفعه إلى البحث عن مصادر بديلة، بعضها يتخذ مواقف معادية للدولة، حسب قوله.
  3. الاختيار غير المهني للقيادات الإعلامية: حيث أصبحت الولاءات الشخصية، لا الكفاءة أو الخبرة، هي المعيار في اختيار المسؤولين، ما أدى إلى تدهور مستوى الكفاءات، وتحوُّل المنابر الإعلامية إلى أبواق موجهة بأساليب قديمة لا تتماشى مع متطلبات العصر[9].

تأثير وسائل التواصل الاجتماعي

في ظل البيئة الإعلامية المصرية الحالية، والتي تتّسم بالتبعية المطلقة وغياب المهنية، تعاظم دور وسائل التواصل الاجتماعي، فلم تعد تقتصر على كونها وسيلة للتواصل بين الأفراد، بل أصبحت تُعد من أهم أدوات التأثير في صناعة الرأي العام وتشكيله، وفي تنشئة الشباب وتثقيفهم سياسيًا، بل إن البعض ينظر إليها اليوم على أنها قد تكون قادرة على قيادة حركة التغيير في العالم العربي.

وقد أتاحت مواقع التواصل الاجتماعي للنخب الفكرية والثقافية—سواء من المستقلين أو المعارضين، والذين تُقصيهم وسائل الإعلام المصرية من المشهد الإعلامي—فرصة للتواصل المباشر مع الجمهور، والترويج لأفكارهم من خلال المنصات الرقمية المختلفة.

كما استطاعوا عبر هذه الوسائط إطلاق حملات إعلامية تستهدف رفع الوعي بالقضايا المغيّبة عمدًا عن الإعلام الرسمي، وتشكيل وعي المستخدمين تجاه هذه القضايا، بل والمساهمة في كسر حاجز الخوف الذي فرضه النظام العسكري الاستبدادي[10].  

نخلص من هذا إلى أن النظام الديكتاتوري العسكري، بقيادة عبد الفتاح السيسي، قد نجح—بامتياز—في إفراغ الإعلام المصري من مضمونه، وتجريده من دوره المحوري في التأثير على الرأي العام.

لذلك، فقد الجمهور المصري ثقته الكاملة في هذا الإعلام، وفضّل التوجّه نحو وسائل إعلامية مستقلة ومعارضة، سواء داخل البلاد أو خارجها، بحثًا عن المعلومات الحقيقية.

ويُعد الإعلام نفسه الخاسر الأكبر في هذه المعركة، بعدما فقد مهنيته، وكرامته، ودوره الوطني، على أعتاب التبعية الكاملة للسلطة.

في المجمل، تتجلى مظاهر ضعف تأثير الإعلام المصري في غياب التنوع الحقيقي في المحتوى، وتراجع مستوى المصداقية، إضافة إلى المنافسة القوية التي تفرضها وسائل الإعلام غير التقليدية، والتي توفّر بدورها مساحة أكبر لحرية التعبير والمشاركة المجتمعية الفاعلة.


المصادر :

[1]   د. صبحي عسيلة، "الإعلام وقيادة الرأي العام"، المركز المصري للفكر والدراسات ، 31 أكتوبر 2018 ، https://ecss.com.eg/2116/

[2]  "وسائل الإعلام والرأي العام" ، المدونة العربية ، 19 يناير 2025 ، https://2h.ae/KfJn

[3]  "سائل الإعلام ودورها المحوري في تشكيل الرأي العام وصناعة القرارات السياسية" ، موقع الاعلام التكنولوجي  ،  https://2h.ae/zIAU

[4]   سالم المحروقي، "دور وسائل الإعلام في تشكيل اتجاهات الجمهور المصري نحو الأحزاب السياسية"، الجزيرة نت  ، 20 مايو 2018 ، https://2h.ae/prMo

[5]   سليم عزوز "السيسي غاضب على إعلامه… فماذا في إمكان الإعلام أن يفعل؟!" ، القدس العربي ، 1 نوفمبر 2019 ، https://2h.ae/bNne

[6]  "البرلمان الغاضب من تراجع دور الإعلام المصري يمهد لتغييرات في المشهد" ، جريدة العرب ، 28 ديسمبر 2023 ، https://2h.ae/wapi

[7]  برنامج "شات . جي . بي . تي " للذكاء الاصطناعي "بتصرف"

[8]  نفس المصدر السابق

[9]  "مجدي الجلاد يكشف أسباب فشل الإعلام المصري" ، المصري اليوم  ، 05 يناير 2025 ، https://2h.ae/GpRS

[10]  "وسائل التواصل الاجتماعي: تأثيرات متنامية وأدوار شائكة" ، المرصد، https://2h.ae/BYty