كيف يستخدم المستبدون وكلاءهم للسيطرة على الإعلام؟
السبت - 12 أبريل 2025
- في سعيهم لبسط سيطرتهم على الفضاء الإعلامي وجه الديكتاتوريون أصدقاءهم وحلفاءهم لامتلاك أو إنشاء وسائل إعلام خاصة
- وسائل الإعلام المملوكة بالوكالة "ذئاب في ثياب حملان" وأصبح استخدامها جزءا متزايدا من تأكيد النفوذ الخارجي للمستبدين
- تُوفّر وسائل الإعلام المملوكة بالوكالة للطغاة والديكتاتوريين أداة فعالة لكسب التعاطف ونشر المعلومات المضللة
- في بعض البلدان يكون الوكلاء من المسؤولين الحكوميين أو السياسيين الذين لهم مصالح تجارية في قطاع الإعلام
- "السيسي" استعان بجهاز المخابرات للسيطرة على الإعلام عبر شركة غير معروفة لعامة الناس وتدار بشكل سري
- تكمن خطورة وسائل الإعلام المملوكة بالوكالة في طمسها الخط الفاصل بين الإعلام العام والخاص وعملها كمنصات دعاية
- استيعاب الإعلام الخاص سمح للطغاة بادعاء احترام حرية التعبير لكنه قلص مساحة التغطية المستقلة وأمّن لهم قنوات موثوقة
- ما يجعل الإعلام المملوك بالوكالة أداة خبيثة لنشر الدعاية بشكل خاص هو الغموض المحيط بملكيته وانتماءاته السياسية
- عند تقييم انحياز وسائل الإعلام سيكون من المفيد للمستهلك الواعي للأخبار أن يتبع القاعدة الذهبية "راقب من أين يأتي المال"
إنسان للإعلام- قسم الترجمة:
في مطلع أبريل 2025، نشرت "مجلة الديمقراطية - Journal of Democracy" الأمريكية -وهي مجلة أكاديمية فصلية تصدر باللغة الإنجليزية، وتُعد واحدة من أبرز المراجع العالمية في مجال الدراسات السياسية والديمقراطية- مقالا تقريريا كتبته بارديا رحماني، باحثة الدكتوراه في قسم العلوم السياسية بجامعة كولومبيا، تحت عنوان "كيف يستخدم المستبدون وكلاءهم للسيطرة على الإعلام؟"، تحدثت فيه باستفاضة عن الآلية الجديدة التي تستخدمها الأنظمة المستبدة للتغطية على سياساتها وتضليل الجمهور والرأي العام، وهي الاستثمار في وسائل إعلام مملوكة بالوكالة لأطراف مقربين من النظام أو مرتبطين به، دون أن يكون لهذه الوسائل ملكية مباشرة للدولة وأجهزتها ومسؤوليها.
وإسهاما منا - كمركز مختص في الدراسات الإعلامية- في زيادة وعي الجمهور العربي بأساليب المستبدين الدعائية المستحدثة لتزييف الحقائق ومناكفة الخصوم السياسيين، نقدم فيما يلي ترجمة كاملة لنص المقال:
"لطالما كانت الدعاية سلاحا قويا في ترسانة الطغاة، ومع ذلك، فقد أصبحت في السنوات الأخيرة الأداة الأولى التي يُلجأ إليها، فمن الرجال الأقوياء في أوروبا إلى المستبدين الذين طال حكمهم في إفريقيا وآسيا والشرق الأوسط، قلّ اعتماد الطغاة في العالم على العنف الصريح، وزاد استثمارهم في قدراتهم الدعائية والإقناعية.
فالمواطن العادي، الذي يعيش في ظل نظام استبدادي، يتعرض الآن لعدد كبير من وسائل الإعلام الخاضعة لسيطرة الدولة، والتي يبرز كل منها الأخبار الإيجابية عن أداء النظام، ويقلل من شأن التطورات السلبية، أو على الأقل يبعد اللوم عن النظام.
والهدف من هذه الجهود هو إقناع الشعوب الرازحة تحت الحكم السلطوي بأنهم في وضع أفضل بوجود هذا النظام الحاكم، وبالتالي تثبيط مطالبهم بالديمقراطية والإصلاح الاقتصادي.
ومع انتشار الدعاية، تزايد وعي الجمهور بتأثيراتها الضارة، ومع ذلك، فقد اقتصر معظم هذا الوعي- حتى الآن- على نوع معين من مصادر الدعاية؛ وهي وسائل الإعلام المملوكة للدولة بشكل مباشر، حيث تهيمن وسائل الإعلام العامة الخاضعة للسيطرة المباشرة من الحكومات الاستبدادية، بما في ذلك محطة التلفزيون الروسية RT "روسيا اليوم"، وهيئة الإذاعة الوطنية الصينية CCTV، على الخطاب الشعبي والأكاديمي المتعلق بانعكاسات الدعاية السلبية.
فعلى سبيل المثال، نشرت صحيفة نيويورك تايمز، منذ عام 2014، أكثر من 500 مقال عن قناة "روسيا اليوم" وحدها، كما تناولت الغالبية العظمى من المقالات المتعلقة بالدعاية، والمنشورة في أبرز مجلات العلوم السياسية، تأثير وسائل الإعلام المُدارة مباشرة من قبل الدولة.
ورغم أن وسائل الإعلام المملوكة للدولة تحتل مكانة مهمة لدى الأنظمة الاستبدادية، فإن التركيز على المصادر الرسمية للأخبار المؤيدة للنظام يغفل تحولا حاسما في المشهد الإعلامي، وهو أن هيئات البث الرسمية باتت تمثل نسبة صغيرة ومتراجعة من إجمالي المنافذ الدعائية.
لذلك، بدأ بروز مصادر جديد للدعاية؛ وهي وسائل الإعلام الخاصة التي تُدار بشكل غير مباشر من قبل وكلاء للنظام المستبد الحاكم، وهذه الوكالة تتخذ أشكالا متعددة، ففي العديد من البلدان، تكون على هيئة رجال أعمال وأوليغارشيين تجمعهم علاقات شخصية أو سياسية أو اقتصادية وثيقة بالقادة المستبدين.
في بعض البلدان يكون الوكلاء من المسؤولين الحكوميين أو السياسيين الذين لهم مصالح تجارية في قطاع الإعلام، ففي مصر، استحوذ ضباط مخابرات، متخفين في هيئة مستثمرين، على عدد من وسائل الإعلام الناقدة، بناءً على توجيهات من عبد الفتاح السيسي.
أما في الهند، التي شهدت تراجعا ديمقراطيا سريعا في ظل قيادة ناريندرا مودي، فإن عددا من أعضاء البرلمان الحاليين أو السابقين من حزب بهاراتيا جاناتا الحاكم، أو أصدقائهم وأفراد عائلاتهم، يمتلكون وسائل إعلام رئيسية في البلاد.
وتكمن خطورة وسائل الإعلام المملوكة بالوكالة في أنها تطمس الخط الفاصل بين الإعلام العام والخاص، فعلى الرغم من أن مالكي هذه الوسائل يُعدّون من الناحية الاسمية مواطنين عاديين، فإن علاقاتهم غير الرسمية بأحزاب الحكم الاستبدادية تثير تساؤلات حول استقلالية غرف الأخبار التابعة لهم.
وتُعد هذه المخاوف مبررة؛ فغالبا ما تعمل وسائل الإعلام المملوكة بالوكالة كمنصات دعاية بحكم الواقع، ولا فوارق كثيرة بين تغطيتها الإخبارية وتغطية وسائل الإعلام الرسمية.
لكن ما يميز وسائل الإعلام المملوكة بالوكالة عن نظيراتها المملوكة للدولة، هو أنها تحتفظ بـ "قشرة" من الاستقلالية، فمن خلال تقديم نفسها كبدائل للإعلام الرسمي التقليدي، تلبي هذه الوسائل الطلب المتزايد في الأنظمة الاستبدادية الحديثة على مصادر أخبار وترفيه غير حكومية.
وبالرغم من أن العديد من خبراء الإعلام يفترضون وضوح الانتماءات والانحيازات السياسية لوسائل الإعلام المملوكة بالوكالة، إلا أن الجماهير، في الواقع، كثيرا ما تخطئ وتتصور أن هذه المصادر الإعلامية مستقلة ومحايدة.
ونتيجة لذلك، قد يستهلك الأشخاص، الذين ينظرون إلى الإعلام الرسمي بشيء من الشك، الرسائل التي تقدمها وسائل الإعلام المملوكة بالوكالة دون أن ينتبهوا لذلك، بل وقد يثقون بها.
وهذه القدرة الخاصة لوسائل الإعلام المملوكة بالوكالة على الوصول إلى الجماهير المتشككة وإقناعها تتحدى فهمنا الحالي للدعاية، إذ تُشير إلى أنها قد تؤثر على شريحة أوسع من السكان مما يُفترض عادة.
انتشار الإعلام بالوكالة
لطالما اعتمد المستبدون، في سعيهم لتشكيل الرأي العام، على وسائل الإعلام الرسمية لتحقيق ذلك، فعندما أصبح هتلر مستشارا لألمانيا عام 1933، استغل سيطرته الجديدة على الإذاعة الحكومية لبث الدعاية المؤيدة للنازية والمعادية لليهود في ظل وجود جمهور منقسم.
وقد لعبت وسائل الإعلام الرسمية دورا محوريا في الإبادة الجماعية التي شهدتها رواندا عام 1994، حيث استخدمت الحكومة التي يهيمن عليها عرقية "الهوتو" محطة الإذاعة الوطنية في البلاد لبث رسائل كراهية وتحريض على العنف ضد أقلية "التوتسي" العرقية.
وفي العقد الأول من الألفية، استضاف الزعيم الفنزويلي هوغو شافيز برنامجا أسبوعيا على التلفزيون الحكومي بعنوان "ألو بريزيدينتي"، كان يعلن فيه عن سياساته الشعبوية، ويلقي خطبا قد تمتد لثماني ساعات متواصلة، ويقوم بتصرفات هزلية لصرف الانتباه عن المعارضة.
وعلى مدار ما يقرب من قرن من الزمن، كانت الدعاية مرادفة تقريبا للإعلام الرسمي، ولكن بداية من تسعينيات القرن العشرين، برز تطوران قوَّضا هيمنة الإعلام الحكومي، أولهما كان نهاية الحرب الباردة وانتصار النموذج الرأسمالي والديمقراطي الليبرالي، فبضغط من الدول الغربية لإطلاق عملية التحرير السياسي وخصخصة الصناعات الأساسية، رفعت الحكومات الاستبدادية في أنحاء العالم القيود القديمة المفروضة على الصحافة، مما أتاح للمؤسسات الإعلامية الخاصة البث لأول مرة.
وفي الوقت ذاته، يسرت التكنولوجيات الجديدة دخول منافذ إعلامية جديدة إلى السوق، وجعلت ذلك أقل كلفة من أي وقت مضى، حيث أن انخفاض تكلفة امتلاك الراديو والتلفزيون، وفيما بعد الهواتف الذكية، وسّع من إمكانية الوصول إلى وسائل الإعلام في العالم النامي، وهو ما أدى إلى خلق طلب على مصادر جديدة للأخبار.
وقد أدت هذه الاتجاهات إلى زيادة كبيرة في عدد وتنوع وسائل الإعلام التجارية في الدول غير الديمقراطية، وتقدم تنزانيا مثالا جيدًا على ذلك، فتنزانيا- وهي دولة أوتوقراطية انتخابية- تخضع لحكم حزب شما تشا مابيندوزي (Chama Cha Mapinduzi) الاستبدادي منذ عام 1977 دون انقطاع.
وفي العقود التي أعقبت الاستقلال عن المملكة المتحدة في أوائل الستينيات، فرض الحزب الحاكم -الذي كان في البداية اتحاد تنجانيقا الإفريقي الوطني الذي أسسه الرئيس المؤسس جوليوس نيريري، ثم خلفه حزب "شما تشا مابيندوزي"- قيودا صارمة على وسائل الإعلام الجماهيرية.
من عام 1962 حتى عام 1993، لم يكن بإمكان الجمهور التنزاني الوصول سوى إلى محطة إذاعية واحدة، وهي إذاعة تنزانيا دار السلام المملوكة للدولة، وصحيفتين فقط، وكلتاهما خاضعتان لسيطرة مباشرة من قبل الحكومة أو الحزب الحاكم.
وفي عام 1993، وتحت ضغط من المجتمع الدولي لتحرير قطاع الإعلام، أصدرت تنزانيا قانون إصلاح البث، الذي رفع الحظر المفروض على وسائل الإعلام غير الحكومية.
وقد أدى ذلك إلى زيادة حادة في عدد المحطات الخاصة في البلاد، من صفر في عام 1993، إلى 11 محطة في عام 2005، ثم إلى 120 محطة في عام 2022.
وقد تجاوز نمو الإعلام الخاص بكثير نمو الإعلام الذي تديره الدولة، فاليوم، لا تمثل وسائل الإعلام المملوكة للدولة سوى 15 بالمئة من إجمالي المحطات في تنزانيا.
كان المنطق التقليدي يقول إن انتشار وسائل الإعلام الخاصة في الدول الاستبدادية -ليس فقط في تنزانيا، بل في كل المجتمعات المغلقة حول العالم- من شأنه أن يخفف من قبضة المستبدين على السلطة، من خلال توفير وجهات نظر بديلة للمواطنين غير تلك التي تروجها الحكومة، إذ تقوم وسائل الإعلام الخاصة، بحسب هذا التصور، بدور الرقيب فتكشف عن قضايا الفساد الحكومي وسوء الإدارة، والانحرافات لدى وسائل الإعلام الرسمية.
وفي الوقت ذاته، ستمنح وسائل الإعلام الخاصة مساحة أكبر للأحزاب المعارضة، مما يمكنها من التوجه إلى الجمهور وطرح تحديات حقيقية أمام الحزب الحاكم خلال فترة الانتخابات.
وكان المنطق السائد يقول إنه لكي تكون هناك حرية في المجتمع، يجب أن تكون هناك حرية في الإعلام، ولكي يكون الإعلام حرا من سيطرة الحكومة، فلا بد أن يكون مملوكا للقطاع الخاص، ومع ذلك، فإن وجود وسائل إعلام خاصة لا يعني بالضرورة وجود صحافة حرة ومستقلة.
ففي سعيهم لبسط سيطرة غير مباشرة على الفضاء الإعلامي الخاص، وجه الديكتاتوريون أصدقاءهم وحلفاءهم لامتلاك أو إنشاء وسائل إعلام خاصة، واستغلوا علاقاتهم غير الرسمية مع مالكي وسائل الإعلام لضمان أن تظل التغطية الإخبارية موالية للنظام.
وحيثما لم تكن مثل هذه الروابط موجودة، عمل الطغاة على إنشائها، من خلال ربط المالكين بالنظام عن طريق منحهم عقودا حكومية، وسياسات اقتصادية تفضيلية، بل وحتى من خلال الرشاوى الصريحة.
وقد خدم قرار استيعاب الإعلام الخاص بدلا من تقييده فقط أو تأميمه ثلاثة أهداف في آن واحد؛ فقد سمح هذا النهج للطغاة بادعاء أنهم يحترمون حرية التعبير ويتسامحون مع الأصوات غير الحكومية في وسائل الإعلام، وفي الوقت نفسه، قلصوا من مساحة التغطية المستقلة الحقيقية، وأمّنوا قناة موثوقة لنشر الأخبار والمعلومات الموالية للنظام.
ومرة أخرى، يوضح المثال التنزاني هذه العملية، فقد كان جاكايا كيكويتي، الذي شغل منصب رئيس تنزانيا وزعيم حزب شما تشا مابيندوزي (CCM) من عام 2005 إلى 2015، من أوائل من ابتكروا استخدام الوكلاء في مجال الإعلام، ففي انتخابات عام 2005، تعرض كيكويتي لتدقيق شديد من قبل صحيفة متنزانيا "Mtanzania"، وهي الصحيفة غير الحكومية الأكثر شعبية في البلاد.
وبهدف تخفيف الضغط الذي تمثله الصحيفة للنظام، وفي الوقت ذاته تأمين وسيلة ذات مصداقية لبث الرسائل المؤيدة للنظام، وجّه كيكويتي صديقه المقرب ومدير حملته الانتخابية، روستام عزيز -أغنى رجل في شرق إفريقيا- لشراء الصحيفة.
وقد أدى استحواذ عزيز على الصحيفة في عام 2007 إلى تغييرات كبيرة في تغطيتها، فبحسب أحد الصحفيين العاملين في "متنزانيا"، كان معروفا عن عزيز تدخله في غرفة الأخبار ومنعه نشر المقالات الناقدة للنظام، حيق يقول أحد الصحفيين: "إذا كانت هناك قصة سلبية عن أحد القادة، يتصل أحد العاملين في مكتبه بروستام عزيز قبل نشر الخبر، ثم يتصل روستام بغرفة الأخبار، ولا تُنشر القصة الخبرية".
ومع مرور الوقت، تعلم صحفيو "متنزانيا" أن عليهم أن يعكسوا صورة إيجابية عن الحكومة إن أرادوا لمقالاتهم النشر.
وتابع الصحفي: "كان الأمر محبطا، وصل بنا الحال إلى أنه إذا خطرت لك فكرة تحقيق صحفي، تفكر مرتين إذا كانت ستُعرض للنشر أم لا، وبدلا من ذلك، تكتب فقط القصص الإيجابية".
وبالتالي، كان لتدخلات عزيز تأثير واضح، فبحسب تحليلي لمئات المقالات التي نُشرت في صحيفة "متنزانيا" بين عامي 2000 و2010، كان احتمال أن تنشر الصحيفة، قبل الاستحواذ، مقالات ناقدة للحكومة أكثر أربع مرات من احتمال نشرها مقالات إيجابية، أما بعد الاستحواذ، فقد انعكست النسبة، وأصبحت غالبية المقالات تمدح النظام.
ولم تقتصر جهود كيكويتي على الاستحواذ على وسائل الإعلام الخاصة القائمة، فقد شجّع الرئيس أيضا أصدقاءه وأفراد عائلته والمسؤولين الحكوميين وأعضاء آخرين من دائرته المقربة على إنشاء وسائل إعلام جديدة، وفي بعض الحالات، كان حلفاء كيكويتي يمتلكون هذه الوسائل بشكل مباشر.
فعلى سبيل المثال، تُعد محطة الإذاعة الشعبية "راديو فري أفريقيا" مملوكة لـ أنتوني ديالو، عضو اللجنة التنفيذية الوطنية لحزب CCM، والذي شغل عدة مناصب وزارية، وفي حالات أخرى، كانت الوسائل الإعلامية تُدار من خلال وسطاء لا تربطهم بالنظام سوى علاقات غير رسمية.
وقد استمرت هذه الأساليب في الإدارات اللاحقة، فخلال رئاسة جون ماغوفولي (2015–2021)، كان قطب الإعلام "سيبريان موسيبا"، مالك مجموعة من وسائل الإعلام الخاصة ذات الشعبية، يعمل كوكيل فعّال لحزب CCM، وكان يُشار إليه أحيانا بلقب "كلب ماغوفولي الهجومي".
أما اليوم، فإن الرئيسة الحالية "سامية حسن صلوحي" تمارس سيطرة غير مباشرة على مجموعة من الوسائل الإعلامية من خلال "أصدقائها المقربين في الوسط الإعلامي"، بحسب ما أفاد به أحد خبراء الإعلام في تنزانيا.
وكما هو متوقع، فقد استخدم المالكون بالوكالة نفوذهم على وسائل الإعلام التي يمتلكونها لدفن القصص الناقدة للنظام، وانتقاء الأخبار الإيجابية فقط حول أداء الحكومة لتغطيتها.
ووفقا لتحليلي لأكثر من ثلاثين ألف صحيفة نُشرت بين عامي 2014 و2024، فإن وسائل الإعلام المملوكة بالوكالة تُغطي الأخبار بطريقة مشابهة بشكل لافت لوسائل الإعلام المملوكة للدولة.
فبالمقارنة مع الوسائل الإعلامية الخاصة المستقلة، التي تميل إلى تغطية الأخبار بشكل متوازن نسبيا، فإن الوسائل المملوكة بالوكالة أكثر ميلا بشكل كبير لنشر قصص إيجابية عن إدارة الحكومة للاقتصاد، وأقل ميلا لتغطية الأخبار السلبية، وأكثر ميلا إلى وضع صور الرئيس على الصفحة الأولى.
ولم تكن عملية استخدام الوكلاء مجرد استراتيجية هامشية، لكنها كانت في صميم جهود الحزب الحاكم في تنزانيا للسيطرة على الفضاء المعلوماتي، حيث احتفظ حوالي 40 بالمئة من جميع وسائل الإعلام الخاصة التي أنشئت منذ عام 2000 بروابط غير رسمية مع حزب CCM
وما يثير الانتباه هو أن هذه الوسائل الخاصة المملوكة بالوكالة تفوق في عددها الوسائل المملوكة مباشرة للدولة بنسبة اثنين إلى واحد، وهو ما يجعلها المصدر الأكثر شيوعا للدعاية في البلاد.
وقد يُفسر استخدام الوكلاء للسيطرة على الإعلام الخاص جزئيا السبب وراء احتفاظ الحزب الحاكم بقبضته المحكمة على الرأي العام، رغم الجهود المكثفة لخصخصة سوق الإعلام التنزاني، وعدم خسارته لأي انتخابات وطنية حتى الآن.
وفي الواقع، وبالرغم من أن البيئة الإعلامية في تنزانيا قد تبدو متنوعة عند النظرة الأولى، إلا أن نظرة أكثر تدقيقا تكشف أن الحزب الحاكم يسيطر، من خلال وسائل الإعلام المملوكة للدولة وتلك المملوكة بالوكالة، على أكثر من نصف مصادر الأخبار في البلاد.
وعليه، لم تقلل خصخصة وسائل الإعلام من بروز الدعاية الحكومية بقدر ما دفعت النظام إلى الاستثمار في طرق جديدة لنشرها.
الإعلام بالوكالة ظاهرة عالمية
إن صعود الإعلام المملوك بالوكالة وانتشاره ليس مجرد قصة تنزانية، بل هو ظاهرة عالمية، ففي الأنظمة الاستبدادية حول العالم، انتقل مركز الجهود الدعائية بشكل متزايد من المجال العام إلى المجال الخاص.
ففي المجر، استغل الرئيس فيكتور أوربان علاقاته مع رجال أعمال من القطاع الخاص لتحقيق احتكار فعلي للفضاء الإعلامي في البلاد.
خذ على سبيل المثال قصة لورينتس ميسزاروش، صديق طفولة لأوربان، والذي انتقل من كونه مالكا لشركة متعثرة لتركيبات الأنابيب إلى أن أصبح أغنى رجل في المجر، بعد حصوله على مناقصات حكومية بمليارات اليوروهات من حكومة أوربان.
وقد نسب ميسزاروش ثروته إلى "الله، والحظ الجيد، وفيكتور أوربان"، واستخدم ثروته الجديدة لشراء عدد كبير من وسائل الإعلام.
وبالاشتراك مع رجلَي أعمال آخرين، استحوذ على جميع الصحف الإقليمية الثمانية عشر في المجر، بالإضافة إلى أكبر صحيفة معارضة في البلاد.
وفي عام 2018، نقل ميسزاروش السيطرة على محفظته الإعلامية بأكملها -مجانا- إلى مؤسسة الصحافة والإعلام في أوروبا الوسطى (KESMA)، وهي منظمة يديرها أحد حلفاء أوربان الآخرين، وقد تبعه رجال أعمال آخرون على نفس النهج.
واليوم، يُعتقد أن ما بين 70 إلى 80 بالمئة من وسائل الإعلام في المجر تخضع لسيطرة مالكين لديهم روابط مباشرة أو غير مباشرة بأوربان وحزب فيدس الحاكم.
أما الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، فقد اتبع استراتيجية مختلفة في سعيه للسيطرة على الإعلام، حيث استعان بجهاز المخابرات العامة المصرية، فبحسب تحقيق حديث أجرته صحيفة "مدى مصر" الإلكترونية، يدير جهاز المخابرات العامة بشكل سري شركة الاستثمار "إيغل كابيتال"، وهي "شركة غير معروفة لعامة الناس".
ومن خلال "إيغل كابيتال"، استحوذ جهاز المخابرات العامة على حصص مسيطرة في عدد من المؤسسات الإعلامية الخاصة البارزة، بما في ذلك مجموعة إعلام المصريين، التي تُعد من أكبر التكتلات الإعلامية في البلاد.
حتى في الصين، وهي دولة لا تزال تلعب فيها وسائل الإعلام الرسمية دورا بارزا، تتجه النزعة السائدة نحو خصخصة الإعلام، فقد سعى الحزب الشيوعي الصيني إلى تعزيز قدرته على إيصال رسائله من خلال الانخراط في درجة معينة من التسويق التجاري للإعلام.
ويتمثل هدف الحزب في خلق وهم بالتعددية الإعلامية، بحيث يُتاح للمواطنين الوصول إلى مجموعة من الوسائل الإعلامية الخاصة التي تبدو جذابة وتتمتع بقدر من المصداقية الظاهرية، لكنها تلتزم بشكل وثيق برسائل الحزب.
وعند النظر على نطاق أوسع، نكاد لا نجد منطقة في العالم لم يسعَ فيها السياسيون الحاليون للسيطرة على الإعلام الخاص عبر وكلاء، فوفق مشروع "رصد ملكية وسائل الإعلام - Media Ownership Monitor"، وهو مشروع أجرى تحقيقات حول هويات وانتماءات مالكي وسائل الإعلام في 24 دولة، رُصد وجود روابط غير رسمية مع شخصيات سياسية قائمة في 18 من هذه الدول، ضمن نسبة كبيرة من وسائل الإعلام الخاصة.
وتتراوح هذه الدول ما بين أنظمة استبدادية مثل المغرب وكمبوديا وصربيا، حيث يستخدم الحزب الحاكم سيطرته على الإعلام الخاص لترجيح كفة الانتخابات لصالحه، إلى دول مثل غانا وألبانيا -وهي ديمقراطيات معيبة- حيث يعرقل النفوذ السياسي تحقيق الإعلام الخاص لتقدم أكبر في ترسيخ الديمقراطية.
وقد رصد الباحثون اتجاهات مشابهة في دول أخرى أيضا، من بينها فنزويلا وروسيا، كما أن تحقيقاتي الخاصة في ملكية وسائل الإعلام في الكاميرون وأوغندا ونيجيريا وتنزانيا أظهرت بدورها أنماطا واسعة الانتشار من الملكية السياسية لوسائل الإعلام الخاصة، ففي العديد من هذه الدول، تُشكّل الوسائل الإعلامية المملوكة بالوكالة النسبة الأكبر أو الأغلبية من مجموع وسائل الإعلام.
في لبنان، يُعتقد أن 69 بالمئة على الأقل من مالكي وسائل الإعلام الخاصة، و80 بالمئة من مجمل وسائل الإعلام الخاصة، لديهم انتماءات سياسية.
أما في منغوليا، فإن ثلاثة أرباع وسائل الإعلام التي خضعت لتحقيقات "رصد ملكية وسائل الإعلام" ترتبط بشكل غير مباشر بأحزاب سياسية، ولا تقتصر الوسائل المملوكة بالوكالة على العدد والكثرة فحسب، بل إنها تحظى أيضا بشعبية واسعة.
ومن المعروف أن الوسائل الإعلامية ذات الانتماءات السياسية تهيمن على نصف سوق الإعلام باللغة الهندية في الهند.
وفي أوغندا، تصل المحطتان التلفزيونيتان التجاريتان الأبرز من حيث الانتماء السياسي، بوكدي وبوكدي 2، إلى نحو 27 بالمئة من إجمالي المشاهدين البالغ عددهم 13 مليونا.
في المقابل، لا تصل هيئة الإذاعة الأوغندية، وهي الجهة الرسمية للبث، إلا إلى ربع هذا العدد فقط (7 بالمئة).
ومع ذلك، من المرجح أن تكون التقديرات المتعلقة بانتشار وسائل الملكية بالوكالة أقل من الواقع الفعلي. فبطبيعتها، تُعد الملكية بالوكالة صعبة الاكتشاف، فمن جهة، يعني غياب قواعد شفافة حول ملكية وسائل الإعلام في العديد من الدول -ليس فقط في الأنظمة الاستبدادية، بل في الديمقراطيات أيضا- أن المالك الرسمي لوسيلة إعلامية غالبا ما يكون غير معروف.
وخلال تحقيقاتي في إفريقيا، صادفت كثيرا من الحالات التي كانت وسائل الإعلام فيها مسجلة باسم شركات قابضة لا تمتلك مكاتب فعلية ولا يوجد مالكون مُعلَنون لها.
وحتى حين تتوفر بعض المعلومات حول الملكية، لا يوجد ضمان بأن الشخص أو الكيان المُسجَّل كمالك على الورق هو من يتحكم فعليا في الوسيلة الإعلامية، فغالبا ما يُخفي المالكون الفعليون هويتهم من خلال وكلاء خاصين بهم.
وفي تنزانيا، علمتُ من مصادر داخلية أن بعض المحطات الإذاعية البارزة مملوكة من قبل رجال أعمال يُعتقد أنهم يعملون نيابة عن أحد أفراد عائلة "كيكويتي"، لكن يصعب التحقق من هذه الادعاءات بشكل مستقل.
وأخيرا، حتى في الحالات التي يُدرج فيها اسم المالك الفعلي، فإن تحليل علاقاته السياسية والاقتصادية والشخصية وتحديد تضارب المصالح المحتمل قد يكون أمرا معقدا.. مثلا: هل المالك عضو في الحزب الحاكم؟ أو هل سبق له أن شغل منصبا حكوميا؟ هل تربطه علاقة شخصية وثيقة بأحد منسوبي السلطة؟ وماذا عن مصالحه الاقتصادية؟ هل حصلت الشركات التي يديرها على مناقصات حكومية أو استثمارات من الدولة؟
وبالنظر إلى الصعوبات الجوهرية في تحديد مالكي وسائل الإعلام ورصد انتماءاتهم السياسية الرسمية وغير الرسمية، فمن المرجح أن العديد من الوسائل المملوكة بالوكالة تمر دون أن يُكشف أمرها.
ميزات الإعلام المملوك بالوكالة
إن ما يجعل الإعلام المملوك بالوكالة أداة خبيثة بشكل خاص لنشر الدعاية هو الغموض المحيط بملكيته وانتماءاته السياسية، ولفهم السبب، علينا أن نتراجع خطوة وننظر في الظروف التي تجعل الدعاية تنجح -أو لا تنجح- في التأثير.
فعلى الرغم من أن الطغاة يستثمرون بكثافة في نشر الدعاية، إلا أن الدعاية ليست عصا سحرية، فلكي تنجح في إقناع الجمهور، لا بد أن يتحقق شرطان اثنان: أولا، أن يختار الجمهور استهلاك هذه الدعاية. وثانيا، أن يصدقها فعليا.
تشير مجموعة كبيرة من الأبحاث إلى أن فئة معينة من السكان -وتحديدا أولئك المتشككين في النظام الاستبدادي أو المعارضين له- تميل إما إلى تجنب استهلاك الرسائل الدعائية، أو إلى التشكيك فيها وعدم تصديقها.
ويزداد احتمال حدوث ذلك بشكل خاص عندما تكون ملكية وسائل الإعلام وانحيازاتها السياسية معروفة بوضوح لدى الجمهور، كما هو الحال مع هيئات البث الرسمية التقليدية.
خذ على سبيل المثال فنزويلا: كانت إدارة "شافيز" كثيرا ما تستخدم مقاطع دعائية حكومية للوصول إلى المواطنين ومحاولة إقناعهم، وكانت محطات التلفزيون تُجبر على قطع برامجها المجدولة لبث مقاطع دعائية للحكومة، لكن فاعلية هذه الاستراتيجية كانت محدودة بسبب ميل المشاهدين المعارضين إلى إطفاء التلفاز أو التحوّل إلى قنوات أخرى.
بمعنى آخر، عندما تكون الدعاية واضحة ومباشرة، فإن الأشخاص الأكثر تشككا في مضمونها يختارون، ببساطة، عدم مشاهدتها، وحتى في حال أبقى معارضو النظام أجهزتهم على المحطات التي تسيطر عليها الحكومة -لنقل مثلا بسبب قلة الخيارات الإعلامية الأخرى المتاحة- فليس من الضروري أن يقتنعوا بما يُعرض.
وبالعودة إلى حالة ألمانيا النازية، نجد أن الإذاعة الحكومية أثرت بالفعل على أولئك الذين كانوا ميّالين مسبقا لتصديقها -لا سيما من خلال تعزيز الانضمام إلى الحزب، وزيادة التغطية الصحفية المعادية لليهود في المناطق المتعاطفة مع النازيين- إلا أن دعايتها فشلت في التأثير على السكان الذين يعيشون في المناطق المعارضة للنظام.
كان هؤلاء المستمعون على دراية تامة بانحياز الإذاعة الحكومية لصالح النازيين، وكان رد فعلهم على الرسائل التي استمعوا إليها إما برفضها كليا أو بتعزيز موقفهم المضاد للنظام.
وتُظهر بيانات استطلاعية في إفريقيا أنماطا مشابهة، حيث يتجنب المواطنون المعارضون للنظام الاستماع إلى المحطات الحكومية.
فقد وجدت أبحاث حديثة أن معارضي النظام عادة ما ينفرون من متابعة وسائل الإعلام المملوكة للدولة، ويفضلون بدلا من ذلك الاستماع إلى المحطات الخاصة، التي يُنظر إليها على أنها مستقلة عن سيطرة الحكومة.
وهنا يأتي دور وسائل الإعلام المملوكة بالوكالة، فهي وسائل إعلام خاصة، مما قد يمنحها قدرا من المصداقية في نظر الجماهير المعارضة للنظام.
ورغم أن مالكي هذه الوسائل قد تكون لهم انتماءات سياسية، إلا أن المواطنين غالبا لا يكونون على علم بذلك.
فالعوامل نفسها التي تجعل من الصعب دراسة الملكية بالوكالة -مثل غياب الشفافية حول من يملك الوسيلة الإعلامية، واستخدام وسطاء لإخفاء المالكين الحقيقيين، وصعوبة تتبع الروابط غير الرسمية بين المالكين والسياسيين- تجعل أيضا من الصعب على الجمهور اكتشاف الانتماء السياسي للوسيلة الإعلامية.
فإذا كان الصحفيون الاستقصائيون أنفسهم يواجهون صعوبات في تحديد ما إذا كانت بعض الوسائل الإعلامية الخاصة مستقلة أو خاضعة لسيطرة النظام عبر وكلاء، فكيف يكون الوضع بالنسبة للمواطن العادي؟
إن استخدام الوكلاء لإخفاء تأثير النظام على الإعلام يعكس -على الأقل جزئيا- اعتبارات استراتيجية تتبناها الأحزاب الحاكمة.
وكما قال أحد رؤساء التحرير في تنزانيا: "في نهاية المطاف، يستخدم النظام الإعلام كأداة لكسب دعم الجمهور، فإذا عرف الناس الذين لا يثقون بالحكومة أن وسيلة إعلامية ما مملوكة لشخص مرتبط بالحكومة أو بحزب CCM، فإن كل ما تنشره سيُنظر إليه على أنه مشوَّه، لذا يحاولون استخدام شخص آخر كواجهة لإخفاء ملكيتهم".
وتؤكد مقابلات مع مسؤولين في النظام هذه الفرضية إلى حد كبير، فبحسب أحد مسؤولي الأمن الحكومي، فإن صعوبة إثبات أن الوسائل الإعلامية مرتبطة بالحكومة عبر وكلاء هو "الغاية النهائية من استخدام الوكلاء في ملكية الإعلام"، ويبدو أن المستهدف الرئيسي من جهود الإخفاء هذه هم الأفراد ذوو الميول المعارضة.
فكما قال رئيس تحرير صحيفة مرتبطة بحزب CCM الحاكم: "إذا تجاهل أنصار النظام صحيفتنا، فالحزب الحاكم لا يهتم، لكن إذا قرأ شخص واحد من المعارضة الصحيفة واعتقد أنها مستقلة، فذلك وحده يبرر إصدارها بالنسبة للحزب الحاكم".
هل تنجح هذه الاستراتيجية؟
وهنا يأتي السؤال: هل ينظر الناس حقا إلى وسائل الإعلام المملوكة بالوكالة على أنها مصادر مستقلة، وبالتالي موثوقة للأخبار؟
لاستكشاف هذا السؤال، أجريتُ سلسلة من الاستطلاعات في أربع دول إفريقية: تنزانيا والكاميرون ونيجيريا وأوغندا.. كان الهدف هو استقصاء آراء المواطنين حول من يعتقدون أنه يملك مختلف وسائل الإعلام في بلدانهم، وقد جاءت النتائج لافتة للنظر.
وفي جميع الاستطلاعات الستة، كان المستجيبون أكثر إدراكا لسيطرة الحزب الحاكم على الوسائل المملوكة للدولة مقارنة بتلك المملوكة بالوكالة، ففي أحد استطلاعات الرأي التي أُجريت بين سكان القرى في تنزانيا، كان 31 بالمئة من المشاركين على علم بأن محطات البث الرسمية مثل TBC وTBC Taifa، إلى جانب محطة Uhuru FM الناطقة باسم الحزب، مملوكة للحكومة أو الحزب الحاكم.
في المقابل، لم يكن سوى 4 بالمئة من المشاركين على علم بسيطرة الحزب الحاكم على محطات إذاعية خاصة مملوكة بالوكالة مثل Radio Free Africa.
وفي استطلاع آخر في تنزانيا، كانت الإجابات أكثر دقة إلى حد ما، ولكن الفجوة المعرفية ظلت قائمة: حيث كان 72 بالمئة من المشاركين على علم بوجود "علاقة وثيقة" بين الحزب الحاكم ومحطات البث الرسمية الرئيسية، بينما كان 49 بالمئة فقط يعلمون بوجود علاقة مماثلة بين الحزب الحاكم وأهم المحطات الإذاعية الخاصة المملوكة بالوكالة في البلاد.
ومن غير المرجح أن تكون هذه الفجوات المعرفية ناتجة عن قلة معرفة أو انخفاض نسبة التعرض لوسائل الإعلام المملوكة بالوكالة.
ففي استطلاع ثالث في تنزانيا، سألتُ مجموعة من السكان المدنيين المتعلمين تعليما عاليا وذوي الوعي السياسي، عن الانتماءات السياسية لعدد من الصحف التي يتعرضون لها يوميا وتُرصد قراءتهم لها، ومع ذلك، ظهرت الفجوة المعرفية ذاتها بوضوح: فبينما كان ما يقرب من 80 بالمئة من المشاركين على علم بأن الصحف المملوكة مباشرة من قبل النظام مرتبطة بالحزب الحاكم، لكن لم تتجاوز نسبة من قالوا الأمر ذاته عن الصحف المملوكة بالوكالة سوى 28 بالمئة.
كذلك تظهر أنماط مشابهة في دول إفريقية أخرى، ففي الكاميرون ونيجيريا وأوغندا، كانت الغالبية العظمى من المشاركين على علم بأن محطات البث والصحف الرئيسية المملوكة للدولة تابعة للحزب الحاكم أو لحلفائه؛ بنسبة 92 بالمئة في الكاميرون، و77 بالمئة في نيجيريا، و93 بالمئة في أوغندا.
ومع ذلك، فإن عددا أقل بكثير كان على علم بأن الوسائل الإعلامية المملوكة بالوكالة مملوكة للحزب الحاكم أو لحلفائه: فقط 30 بالمئة في الكاميرون، و42 بالمئة في نيجيريا، و59 بالمئة في أوغندا.
وتوفر نتائج هذه الاستطلاعات دليلا متسقا إلى حد كبير في عدد من الدول على أن استخدام الوكلاء يُخفي بفعالية سيطرة الحزب الحاكم على وسائل الإعلام، مقارنة بالأشكال العلنية من الهيمنة الإعلامية للدولة.
كما أن الغموض المحيط بملكية الوسائل المملوكة بالوكالة ينعكس على شكل تصورات خاطئة بشأن انحيازها السياسي، ففي استطلاع آخر أُجري مع قرّاء منتظمين للصحف في تنزانيا، سألتُ المشاركين عمّا إذا كانت كل واحدة من ثماني صحف تميل لأن تكون "مؤيدة للحكومة"، أو "محايدة"، أو "مؤيدة للمعارضة".
ومرة أخرى، ظهرت فجوة واضحة في الإدراك، فبينما رأى 75 بالمئة من المشاركين أن الصحف المملوكة للدولة منحازة لصالح الحكومة، لم تتجاوز نسبة من قالوا ذلك عن الصحف المملوكة بالوكالة 33 بالمئة.
تذكَّر أن هذه التصورات الخاطئة تستمر على الرغم من أن الوسائل المملوكة بالوكالة وتلك المملوكة للدولة تُغطي الأخبار بطرق متشابهة إلى حد لافت.
وإذا كان الناس يأخذون في الحسبان مسألة الملكية والانحياز عند اتخاذ قرارهم بشأن الوسائل الإعلامية التي يستهلكونها، فبالتالي ينبغي أن تنعكس هذه الفجوات الإدراكية في أنماط الاستهلاك الفعلية في الواقع.
وبشكل محدد، يمكننا أن نتوقع أن يتجنب معارضو النظام وسائل الإعلام المملوكة للدولة، التي يعلمون بانحيازها، بينما يستهلكون دون قصد الوسائل المملوكة بالوكالة.
وتُشير البيانات إلى أن هذا هو ما يحدث بالضبط، ففي استطلاعاتي في تنزانيا، وجدت أن معارضي النظام كانوا أقل تعرضا بانتظام لمحطات الإذاعة الحكومية بنسبة حوالي 10 نقاط مئوية من مؤيدي النظام، ومع ذلك، كان احتمال استماعهم إلى المحطات المملوكة بالوكالة مساويا تقريبا لاحتمال استماع المؤيدين لها.
ولا يبدو أن معارضي النظام يتجنبون هذه الأخيرة، ربما لأنهم لا يعتقدون أن المحطات المملوكة بالوكالة منحازة سياسيا لصالح الحكومة.
إن وسائل الإعلام المملوكة بالوكالة هي، في الواقع، ذئاب في ثياب حملان: فهي تحمل رسائل مؤيدة للنظام، لكنها تبدو وكأنها خاصة ومستقلة، مما يجعلها أكثر جاذبية للجمهور المعارض للنظام.
وبهذه الطريقة، قد تُمكِّن استراتيجية استخدام الوكلاء من تجاوز الحواجز التقليدية للإقناع، ومنح المصداقية لمصادر إعلامية كان من المفترض أن يتجنبها المتشككون عادة.
إن هذه الخاصية بالتحديد هي ما تجعل الإعلام المملوك بالوكالة أداة قوية، ليس فقط للتأثير على معارضي الأنظمة الاستبدادية في الداخل، بل أيضا لإقناع الجماهير في الخارج.
في الواقع، أصبح استخدام وسائل الإعلام بالوكالة جزءا متزايد الأهمية من عمليات النفوذ الخارجي التي تنفذها الأنظمة الاستبدادية، فمع إدراك الدول الديمقراطية لتأثير وسائل الإعلام الروسية الضارة -على سبيل المثال، حظر الاتحاد الأوروبي قناة RT في عام 2022، بدأت روسيا في توجيه رسائل مؤيدة لها ومعادية للديمقراطية من خلال وسائل إعلام خاصة مسجلة في الدول المستهدفة.
ومن الأمثلة على ذلك قناة Tenet، وهي شبكة تلفزيونية محافظة في الولايات المتحدة أثارت مؤخرا جدلا واسعا بعد الكشف عن صلاتها بروسيا، ومنصة Canal Red، وهي وسيلة إعلام إلكترونية مقرها إسبانيا تعيد تكرار ما تغطيه قناة RT.
وعلاوة على ذلك، وفي إطار مساعيها لفرض "قوة ناعمة" على مستوى العالم، مررت كل من روسيا والصين رسائل مؤيدة للنظام عبر وسائل إعلام محلية في الدول النامية.
فعلى سبيل المثال، تحتفظ الصين بمجموعة من الوسائل الصديقة لها في 26 دولة من خلال شبكة "أخبار الحزام والطريق" (Belt and Road News Network) التي تقدم معلومات حصرية للوسائل الإعلامية الأجنبية مقابل تغطية إيجابية للنظام الصيني.
وفي الديمقراطيات، كما في الأنظمة الاستبدادية، تكمن الخطورة في أن الناس قد يستهلكون طواعية الأخبار الصادرة عن وسائل إعلام بالوكالة ويصدقونها، وهي أخبار كانوا سيتعاملون معها بشيء من الشك لو أنها صادرة عن وسائل إعلام رسمية تقليدية، وبالتالي، تُوفّر وسائل الإعلام المملوكة بالوكالة للطغاة والديكتاتوريين أداة فعالة لكسب التعاطف، ونشر المعلومات المضللة، والتشويش بين الحقيقة والوهم.
ما العمل؟
إذا كانت خطورة الإعلام المملوك بالوكالة تكمن في غموضه، فإن الشفافية تمثّل استجابة مهمة لهذه المشكلة، فكما يُطلب من السياسيين الكشف عن ممولي حملاتهم الانتخابية، ينبغي أن تُلزم وسائل الإعلام بالكشف عن معلومات تتعلق بمالكيها والمستثمرين فيها والمعلنين لديها، حتى يتمكن المواطنون من اتخاذ قرارات مستنيرة بشأن تضارب المصالح المحتمل.
ومن النماذج القانونية المحتملة قانون حرية الإعلام الأوروبي (European Media Freedom Act)، الذي أقرّه البرلمان الأوروبي في مايو 2024؛ والذي يتضمن تعزيز قواعد الشفافية المتعلقة بالإفصاح عن الملكية والإعلانات الحكومية، وإنشاء نظام لرصد ملكية وسائل الإعلام، وهو قاعدة بيانات تحتوي على معلومات حول ملكية الوسائل الإعلامية.
كما يُعد حظر شراء وسائل الإعلام المحلية من قبل الدول الاستبدادية أو الجهات المرتبطة بها حلا قانونيا آخر، فردا على خطة الاستحواذ على صحيفة التلغراف من قِبل تحالف "ريد بيرد آي إم آي"، المدعوم من الإمارات، أقرّت المملكة المتحدة تعديلا في مايو 2024 يمنع "الملكية أو التأثير أو السيطرة الأجنبية" على وسائل الإعلام البريطانية، ويمنح وزير الثقافة صلاحية التحقيق في الروابط السياسية المحتملة للمالكين.
وبالطبع، لا تملك الأنظمة الاستبدادية (وكذلك العديد من الديمقراطيات، في الواقع) حوافز كثيرة لضمان شفافية الملكية طالما أنها تستفيد من إبقاء الجمهور في الظلام، وحتى لو أصبح الإفصاح عن الملكية إلزاميا، يمكن للطغاة الاستمرار في العمل من خلال أفراد يرتبطون بالنظام بعلاقات غير رسمية أو غامضة.
وفوق ذلك، فإن إتاحة المعلومات عن الملكية شيء، وضمان أن تكون هذه المعلومات مفهومة وميسّرة للجمهور هو شيء آخر تماما.
لهذه الأسباب، تلعب وسائل الإعلام المستقلة الحقيقية دورا محوريا في الحد من تأثير وسائل الإعلام المملوكة بالوكالة، فبإمكان المنصات الإعلامية المستقلة والجهات الرقابية أن تُجري تحقيقات حول هوية مالكي وسائل الإعلام وانتماءاتهم السياسية ومصالحهم الاقتصادية، وأن تنشر هذه المعلومات وتُبسطها للجمهور، وتُبرز تضارب المصالح المحتمل.
وفي الوقت نفسه، يمكن لمنصات تجميع الأخبار ومواقع التواصل الاجتماعي أن تضع علامات أو تصنيفات على الوسائل الإعلامية الخاصة التي تثير علاقاتها السياسية أو الاقتصادية مع الأنظمة الاستبدادية تساؤلات حول استقلاليتها.
وعلى نحو أوسع، قد نكون بحاجة إلى تغيير في طريقة التفكير، فلا يزال الأكاديميون والممارسون والجمهور يتبنون تصورا ثنائيا للإعلام، تُصوّر فيه الدولة على أنها تسعى للسيطرة المباشرة على الفضاء المعلوماتي، بينما تكافح الوسائل الإعلامية الخاصة لمقاومة هذه الهيمنة.
قد يكون هذا النموذج مناسبا في الماضي، لكنه لم يعد يعكس الواقع الإعلامي المعاصر، فمن ناحية، كثيرا ما يتواطأ أصحاب المؤسسات الإعلامية التجارية مع الطغاة والسياسيين غير الليبراليين للتلاعب بالتغطية الإعلامية؛ سواء لأنهم يتعاطفون سياسيا مع من في السلطة، أو لأنهم يستفيدون من السياسات الاقتصادية التفضيلية والعقود الحكومية، أو غيرها من الترتيبات المبنية على "خدمة مقابل خدمة".
ومن ناحية أخرى، فإن الإعلام العام في العديد من الدول الديمقراطية غالبا ما يكون محصنا بشكل نسبي ضد النفوذ السياسي.
ففي ألمانيا، مثلا، تلتزم هيئات البث العامة بمعايير صارمة للحياد، ويُنظر إليها كمصادر موثوقة للأخبار من قِبل أشخاص من مختلف الاتجاهات الأيديولوجية، وقد تساهم حتى في تقليل الاستقطاب في الرأي العام.
وبالتالي، تُشكّل هذه الأمثلة تحديا للفكرة السائدة بأن الإعلام الخاص هو بالضرورة مستقل عن الحزب الحاكم، وأن الإعلام العام تابع له بالضرورة.
كما أن للجمهور المستهلك للأخبار دورا يؤديه أيضا، حيث إن تأثير الإعلام المملوك بالوكالة ينبع، جزئيا، من ميل الجماهير إلى تبني تصورات متساهلة حيال انحياز الوسائل الإعلامية التي تفتقر ملكيتها للوضوح أو اليقين.
وعوضا عن الافتراض بأن الوسائل الإعلامية الخاصة غير منحازة، ينبغي للجمهور أن يُدرك أن غرف الأخبار تخضع في كثير من الأحيان لضغوط من المالكين والمستثمرين والمعلنين، وأن يفكر في الطرق التي قد تؤثر بها ملكية الوسيلة الإعلامية على تغطيتها الإخبارية.
وعند تقييم انحياز الوسائل الإعلامية، سيكون من المفيد للمستهلك الواعي للأخبار أن يتبع القاعدة الذهبية المفضلة لدى الصحفيين الاستقصائيين: "راقب من أين يأتي المال".
لقراءة المقال من المصدر اضغط هنا