الإعلام والمال الحرام وإسقاط التجربة الديموقراطية في مصر
الأربعاء - 18 يونيو 2025
د. سليمان صالح
لكي نطوّر كفاحنا لتحقيق الديمقراطية، يحتاج الأحرار في كل العالم إلى دراسة علمية للتجربة المصرية منذ ثورة 25 يناير 2011 حتى الآن؛ فهذه الدراسة يمكن أن تزيد قدرتنا على استشراف المستقبل، وحماية الأمة من التضليل وتزييف الوعي والخداع والتدليس.
لذلك أحلم بأن أجد جامعة تتبنى هذا العمل العلمي، وعددًا كبيرًا من الباحثين الذين يتمتعون بالجرأة والشجاعة، لتقديم رسائل ماجستير ودكتوراه تتناول جوانب مختلفة من تلك التجربة المهمة في تاريخ العالم، وبمركز دراسات استراتيجية يجمع العلماء لمناقشة عادلة تلتزم بالأخلاق العلمية لكل الأحداث التي شهدتها مصر خلال تلك الفترة؛ لأن ذلك يشكّل الأساس العلمي لمرحلة كفاح جديدة، وتوعية الأمة بالحقائق، فالمعرفة قوة، ولذلك يمكن أن نحوّل دراسة هذه التجربة إلى مصدر قوة للأمة، فالتاريخ يقدم لنا الكثير من الأمثلة التي تثير الخيال، والتي توضّح أن الأمم تستطيع أن تنتصر وتفرض إرادتها عندما تمتلك الوعي والمعرفة.
وعلماء الأمة يجب أن يطرحوا أسئلة جريئة وقوية تكشف الحقائق، لكن جامعات مصر أصبحت مقيّدة، وتم فصل الأساتذة الذين رفضوا الخنوع والخضوع للاستبداد، واعتزوا بحريتهم الأكاديمية وكرامتهم العلمية؛ ففقد طلاب الدراسات العليا من يشرف على رسائلهم، وفضّلوا أن يخضعوا للشروط التي فرضتها أجهزة الأمن التي أصبحت تحكم الجامعات.
الحرب الإعلامية.. لماذا؟!!
أهم سؤال يجب أن نبدأ به هو: ما دور وسائل الإعلام في إسقاط التجربة الديمقراطية، والتمهيد لقبول الانقلاب العسكري على أول رئيس مصري منتخب يختاره الشعب بإرادته، ليعبّر عن آماله في مشاركة ديمقراطية وتحقيق الاستقلال الشامل؟!
كما أن انتخاب الرئيس محمد مرسي كان نتيجة لثورة شعبية عبّر فيها شعب مصر عن أمله في حماية الكرامة الإنسانية لكل مصري، والحقيقة التي لا أعتقد أن باحثًا حرًّا يجادل في صدقها أن الرئيس محمد مرسي كان حريصًا على تحقيق هذا الهدف، وأنه نجح في ذلك؛ وكانت حماية الكرامة الإنسانية من أهم إنجازاته؛ فلم يتعرض إنسان مصري خلال فترة رئاسته لاعتداء على نفسه أو ماله أو عرضه أو بيته أو حقه في الخصوصية.
وتلك الحقيقة توضح أصالة الرئيس، وأنه ينطلق من مبادئ قامت عليها الحضارة الإسلامية العظيمة، وهي تشكّل أساسًا لبناء المستقبل، فالإنسان عندما يأمن على حرمة بيته وعرضه ونفسه ويتم احترام كرامته، يستطيع أن ينطلق ويبدع ويبتكر ويبني ويكافح لتحقيق الاستقلال الشامل، وهذا ما أدركته القوى الاستعمارية والإقليمية التي تعرف هدف محمد مرسي من تحرير الإنسان واحترام كرامته تمهيدًا لبناء القوة في كل المجالات؛ فتحالفت للانقلاب عليه.
ومحمد مرسي عالم يمتلك خيالًا سياسيًّا ورؤية استراتيجية تقوم على أن الإنسان الحر الكريم هو الذي يبني التقدم والحضارة، وأن حماية كرامة الشعب هي الخطوة الأولى لبناء القوة والنهضة والتقدم.
وأنا كباحث في مجال علم القيادة أرى أن احترام كرامة المواطن وحمايتها هو أهم إنجازات القائد الاستراتيجي.
لذلك يجب توعية شعبنا بأن محمد مرسي لم يكن يواجه معارضة سياسية، بل كان مستهدفًا بحرب إعلامية منسقة إقليميًّا، ساهمت فيها "إسرائيل" عبر الترويج لخطر الإخوان والديمقراطية الإسلامية التي تثير القلق والخوف، بينما أعاد الإعلام المصري صياغة تلك الرسائل بلغة محلية تتحدث عن الأمن القومي، والهوية، والدولة المدنية.
المال الحرام وتزييف الوعي!
تم استخدام وسائل الإعلام في إسقاط تجربة الرئيس محمد مرسي، حيث لعبت وسائل الإعلام، خصوصًا الإعلام الخاص المملوك لرجال أعمال مرتبطين بمؤسسات الدولة العميقة، دورًا رئيسيًا في التأثير على الرأي العام وتهيئته لقبول الانقلاب العسكري.
لذلك فإن أهم ما يمكن أن نوجّه الباحثين لدراسته هو المقارنة بين خطاب وسائل الإعلام الأمريكية والأوروبية والإسرائيلية، وخطاب القنوات المصرية التي امتلكها رجال الأعمال ووفّرت لها دول عربية التمويل للسيطرة على الإعلاميين؛ فمن المؤكد أنه كان هناك تشابه في الخطاب يصل إلى حد التطابق... فكيف يمكن تفسير ذلك؟!
فوسائل الإعلام لم تقم بدورها في توفير المعرفة للجمهور، بل كانت طرفًا فاعلًا ومؤثرًا في صناعة مشهد إسقاط مرسي؛ حيث أسهمت في تعبئة الجماهير ضد الرئيس المنتخب، وصنعت "شرعية شعبية" زائفة لتدخل المؤسسة العسكرية، في واحدة من أبرز حالات توظيف الإعلام كأداة لتقويض الديمقراطية.. وأعتقد أن ذلك يشكّل مجالًا علميًّا مهمًّا، ويمكن أن يسهم البحث العلمي في تطوير نظرية علمية جديدة.
حرية الإعلام يقيدها المال الحرام
وأنا كمشارك في هذه التجربة أعرف الكثير من الحقائق، التي لم أجد حتى الآن قناة تليفزيونية تتيح لي تقديمها واستخدامها في توعية الجماهير؛ فلقد عملت -عندما كنت وكيلًا للجنة الثقافة والإعلام بمجلس الشعب- على تحرير الإعلام المصري، وفتح المجال لشعب مصر ليتمتع بحقه في وسائل إعلامية توفّر له المعرفة وتدير المناقشة الحرة، وحماية حقوق الإعلاميين في الحصول على المعلومات، واستجواب المسؤولين، وتغطية الأحداث، لأننا كنا نحلم بأن تكون مصر نموذجًا لمجتمع المعرفة، وقائدة في مجال اقتصاد المعرفة، وكانت حرية المعرفة من أهم أركان مشروعنا الحضاري، وكان الرئيس محمد مرسي هو الأكثر حرصًا على هذه الحرية، وحماية لها، وإصرارًا على أن تكون حرية الإعلام أساسًا لحرية مصر وشعبها.
لكن المال الحرام تدفّق بقوة لإنشاء وسائل إعلامية شنّت أكبر حملة تضليل ودعاية وتجهيل في تاريخ العالم؛ حيث تم استخدام استراتيجية التخويف التي تم اقتباسها من التجربة الأمريكية بعد أحداث 11 سبتمبر، وهذه الاستراتيجية تعتمد على دفع الجماهير لتفضيل الأمن على الحرية، والتخلي عن الديمقراطية والأخلاق والحقوق والكرامة من أجل وهم "الاستقرار".
استراتيجية التخويف لتقييد الحرية
ولقد نجحت هذه الاستراتيجية في تخويف الشعب الأمريكي ودفعه لتأييد العدوان على أفغانستان والعراق، ونشر الكراهية ضد الإسلام (الإسلاموفوبيا)، ومنح الرئيس الحق في شن الحرب بدون إذن الكونغرس؛ وهذا يعني التخلي عن الديمقراطية.
وكنت أدرك في تلك الفترة خطورة استخدام هذه الاستراتيجية، وأنها دليل على أن أمريكا تقوم بالتنسيق مع الدول العربية الإقليمية المعادية للثورة المصرية؛ والتي تموّل الكثير من وسائل الإعلام لتطبيق هذه الاستراتيجية، وأن "إسرائيل" تقوم بدورها على المستوى العالمي لإثارة الخوف من جماعة الإخوان المسلمين التي تم ربطها بالجماعات الإرهابية، وتصويرها بأنها خطر على الدولة المصرية.
كان الرابط الأساسي بين برامج تلك القنوات التلفزيونية هو تخويف الشعب من الإخوان، والسخرية من الرئيس محمد مرسي، والعمل على تشويه صورته عن طريق تكرار أخبار مفبركة عن الأزمة الاقتصادية، وهذا يوضح التنسيق بين هذه القنوات، وأن الأجهزة الأمنية كانت تقوم بدور خطير في هندسة المشهد، وإدارة الأحداث، والتعاون مع الدول التي تقوم بتمويل هذه القنوات، وتمويل حركة "تمرد"، وتصويرها كذبًا وتدليسًا بأنها حركة شعبية، وأن مظاهرات 30 يونيو ثورة، واستدعاء الجيش للسيطرة على الحكم.
الأجهزة الأمنية تدير الإعلام
كما أن وسائل الإعلام المملوكة للدولة مثل الصحف القومية وقنوات اتحاد الإذاعة والتليفزيون كانت متحيزة ضد الرئيس، ولا تسمح للمثقفين الإسلاميين بالدفاع عنه، وهذا يشير إلى أن الأجهزة الأمنية كانت تتحكم في هذه الوسائل وتديرها، وتستخدم الإعلاميين لتزييف وعي الشعب وتخويفه من الإخوان، ومنع الأصوات الإعلامية التي تدافع عن الرئيس والتجربة الديمقراطية.
ولقد كنت أحد الذين تعرضوا للظلم والمنع من الحديث، وإعطاء الفرص للمعادين للرئيس محمد مرسي للهجوم عليه واستدعاء الجيش للانقلاب عليه، وكنت أعرف منذ زمن طويل أن أجهزة الأمن تتحكم في الإعلاميين، وتقوم بتوجيههم، لكنني كنت أعتقد أن الثورة أعطتهم الفرصة لتحرير أنفسهم من الارتباط بهذه الأجهزة، وأنهم يمكن أن يقوموا بدورهم كمِهنيين في نقل الحقائق، لكن ظهرت حقائق صادمة خاصة خلال شهر يونيو 2013.
أستطيع أن أقدّم لكم الكثير من الذكريات الحزينة التي تكشف خطورة حملة التضليل التي تعرض لها شعب مصر، فهل يمكن أن تصدّق أن مذيعًا يهدد أستاذ الحرية بالضرب، ويستدعي البلطجية على باب استوديو قناة النيل للأخبار لأنني أدافع عن الديمقراطية، لولا أن أنقذني تلاميذي منهم؟
لقد كانت الأجهزة الأمنية تدير المشهد بالتعاون مع الدول التي تضخ المال الحرام لشراء الذمم وترويج المعلومات الكاذبة، ولذلك تم إغلاق قنوات التليفزيون المؤيدة للشرعية والديمقراطية بعد بيان الانقلاب مباشرة، وفقدت مصر حرية الإعلام التي كانت الضحية الأولى للانقلاب.
ولم يعد المجال مفتوحًا إلا للمنافقين أعداء الحرية والديمقراطية الذين يزيّفون وعي الجماهير، وفقدت وسائل الإعلام المصرية مصداقيتها، وتناقص توزيع الصحف حتى أوشكت على الموت، وانكسر حلمنا: "إعلام حر لوطن حر"، واستُشهد أول عالم مثقف ينتخبه الشعب رئيسًا، وضاعت كرامة المواطن، وأصبح علماء مصر في السجون والمنافي، فهل ينتفض الشعب ليسترد كرامته؟!