الصحافة الإلكترونية في مصر بين الإشكاليات المهنية والقيود القانونية
السبت - 12 أكتوبر 2024
• نمط الملكية للصحف الإلكترونية جعلها نسخا متكررة تتحدث بصوت واحد
• تحكُّم شركة واحدة في الإعلانات حرم المواقع من موارد مهمة لتسيير أعمالها
• دستور 2014 فرّق بين الصحافة الورقية والإلكترونية فوضع الأخيرة في مأزق
• ترسانة قوانين سيئة السمعة كبّلت المواقع وعرّضت العاملين لمخاطر عديدة
• الرقابة الصارمة.. أبرز إشكالية أفقدت الصحافة الإلكترونية قيمتها المهنية
- لا وجود لأي حماية لصحفيي المواقع بسبب منع قيدهم في نقابة الصحفيين
دراسة- إنسان للإعلام:
• مقدمة
تعاني الصحافة الإلكترونية بمصر من قيود متعددة، تعرقل عملها وتهدد مستقبل الصحفيين العاملين بها.
في مقدمة هذه القيود تحكُّم الجهات "السيادية" بها، من خلال امتلاك الشركة المتحدة التابعة للمخابرات لمعظمها ، وفرض سياسات موحدة عليها، جعلتها نسخا متكررة ، دون ترك أي هوامش لحرية الراي والتعبير أو الإبداع.
هناك أيضا قيود تشريعية تتمثل في التفرقة الدستورية بين الصحافة الورقية والإلكترونية، وقانون الإعلام الموحد، الذي فرض شروطا تعجيزية على إنشاء المواقع الإلكترونية.
هذا بخلاف سلسلة من القوانين التي تكبل أداء هذه المواقع، وصولا للحجب في بعض الأحيان، بالإضافة الي المشاكل المهنية والنقابية والاقتصادية التي تعاني منها هذه النوعية من الصحافة.
هذه الورقة البحثية تتعرض لأهم المشاكل التي تعيق عمل الصحف الإلكترونية بمصر، وذلك من خلال المحاور التالية:
1- إشكالية الملكية الموحدة
2- الإشكاليات التشريعية
3- الإشكاليات المهنية
4- الإشكاليات النقابية
• إشكالية الملكية الموحدة للمواقع
من المشاكل التي تعرقل عمل الصحف الإلكترونية بمصر ، إشكالية الملكية الموحدة ، حيث سعى النظام الانقلابي منذ 2013 للسيطرة على كل وسائل الإعلام، ومن أهمها الصحف الإلكترونية، وانتهى المطاف إلى ملكية "الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية "، التابعة للمخابرات العامة، لمعظم المواقع الإلكترونية، وهي شركة أسستها المخابرات عام 2016، بدمج شركتي "إعلام المصريين" و"D media".
ومنذ عام 2018 وما بعده، تمكنت "الشركة" من الاستيلاء على المواقع الإخبارية الكبرى بمصر ، ومنها اليوم السابع ، video 7، الوطن ، الدستور، الأسبوع، مبتدأ، زاجل، بيزنس توداي مصر (Business Today)، المصري اليوم، إيجيبت توداي (Egypt Today)، أموال الغد، دوت مصر، صوت الأمة، و كورة بلس.
وبهذا استطاعت الشركة إسكات الكثير من الأصوات وتقليم الأظافر لكل من يعملون في تلك المواقع الإلكترونية، وأخضعتها للرقابة، باستخدام لجنة على اتصال مباشر مع عدد من كبار المسؤولين في المخابرات والأمن، الذين يوجهون وفق ما يريده النظام .
ومن أمثلة الكيانات التي تم إخضاعها للرقابة بالقوة صحيفة "المصري اليوم" الإلكترونية والورقية، حيث استجاب مؤسسها صلاح دياب للأوامر بعد الزج به في عدد من القضايا الملفقة.
وتم تعيين عبد المنعم سعيد، رئيس مؤسسة الأهرام الأسبق، الذي لم يُخف أبدًا رفضه لثورة يناير ودعمه اللامحدود لنظام 30 يونيو، وعبد اللطيف المناوي، رئيس قطاع الأخبار في التلفزيون الرسمي نهاية حكم مبارك، على رأس "المصري اليوم"، وبهذا الأسلوب تحول أحد أهم المواقع في مصر من الأداء المهني إلي السيطرة المخابراتية![1] .
وفي عام 2021، أعيدت هيكلة "الشركة المتحدة"، بعد الإطاحة بمديرها تامر مرسي، واشتدت القبضة أكثر على المواقع الإلكترونية، وجعلت ما ينشر بها نسخا مكررة، وأخضعت كل الموضوعات للرقابة المشددة.
ووصف الكاتب الصحافي المصري أنور الهواري، رئيس تحرير المصري اليوم الأسبق، على صفحته بـ "فيسبوك" هذه السياسات بأنها "أفقدت مصر قوتها الناعمة التي بنتها أجيال متعاقبة من عباقرة مصر عبر قرنين من الزمن، وجردت مصر من مناعتها الفكرية وتركتها مكشوفة أمام الخطر من كل الاتجاهات في حقبة عصيبة وغير مسبوقة في تاريخنا المعاصر"، وأن "سياسات تكميم الأفواه زجت بمصر في اتون العصور المظلمة".
في الوقت نفسه، نجحت الشركة في السيطرة على سوق الإعلانات، وأصبحت تمول المواقع الإلكترونية التي تسير في ركبها، أما المواقع الجادة فتم حرمانها من حقها في الإعلانات[2].
بجانب ذلك، تفرض الشركة على المواقع الإلكترونية التابعة لها، نشر موضوعات عن نشاطها، وامتداح عملها، ومن أمثلة ذلك:
- "قصة نجاح.. كيف أعادت «المتحدة» الريادة المصرية فى الفن والإعلام؟" ، الدستور[3].
- "المتحدة للخدمات الإعلامية درع مصر فى مواجهة قوى الشر.. تصدت للتيارات الظلامية بـ"المنتجات التنويرية".. أوقدت روح الانتماء والبطولة فى النشء.. والأسرة التفت حول أعمالها الراصدة لإنجازات الوطن وحكايات الأبطال"، اليوم السابع[4].
- "المتحدة للخدمات الإعلامية.. قصة نجاح في الدراما والإعلام والرياضة"، الوطن[5].
هكذا تغني المذبوح بسكين الذابح، فبالرغم من إرغام "الشركة" هذه المواقع على تجنب كل القيم المهنية، فإن معالجاتها تقطر مدحا للسياسات الاستبدادية.
• الإشكاليات القانونية للصحافة الإلكترونية
هناك كم من القوانين والتشريعات، التي أفرزتها برلمانات ما بعد الانقلاب على مدار عقد مضي، كبّلت الصحف الإلكترونية وجعلت العاملين بها يواجهون مخاطر الاعتقال بسبب ما يكتبونه، فضلا عن أن الحصول على تصريح بإصدار صحيفة إلكترونية أصبح من الأمور المستحيلة.
وابتداءً من دستور 2014، أصبحت المواقع الإلكترونية حبيسة مواد دستورية فرقت بينها وبين الصحف الورقية، فيما يخص الحماية الدستورية لهذين النوعين من الصحافة، حيث خصصت لجنة الخمسين، التي أعدت الدستور، عددًا من الضوابط العامة المُتعلقة بالصحافة ووسائل الإعلام.
مثلا، جاء في المادة 70 من الدستور النص التالي: "وللمصريين من أشخاص طبيعية أو اعتبارية, عامة أو خاصة، حق ملكية وإصدار الصحف وإنشاء وسائل الإعلام المرئية والمسموعة، ووسائط الإعلام الرقمي. وتصدر الصحف بمجرد الإخطار على النحو الذي ينظمه القانون. وينظم القانون إجراءات إنشاء وتملك محطات البث الإذاعي والمرئي والصحف الإلكترونية".
ومن القراءة الأوليَّة لهذه المادة نجد أن المُشرِّع قد أقر في البداية حقًّا عامًّا بتملك وإصدار الصحف ووسائل الإعلام وما عرَّفه بوسائط الإعلام الرقمي، وقد قَصَر المشرع ممارسة هذا الحق على المصريين فقط، إلا أن التدقيق في الألفاظ التي خصصها المشرّع الدستوري لكل من الصحف ووسائل الإعلام والوسائط الرقمية على حدة، يكشف التباين الكبير في مستوى الحماية الدستورية التي تتمتع بها كل منها.
ففي العبارة الأولى المُتعلقة بالحق في الملكية والإصدار يَستخدم المُشرع الدستوري مُصطلحين مختلفين، هما “الصحافة” و ”وسائط الإعلام الرقمي”، دون ذكرٍ واضحٍ لمُصطلح الصحف الإلكترونية.
ثم عاد المُشرّع في العبارة الأخيرة من نص المادة 70 ليحدد الإجراءات التنظيمية المُتعلقة بإصدار الصحف، وهنا ذكر مُصطلح الصحف الإلكترونية، ليُفرق بين إجراءات الإصدار ليكون إصدار الصحف _ويُقصد هنا الصحف الورقية_ بمجرد الإخطار، أما بالنسبة إلى الصحف الإلكترونية فإنها لا تصدر بمجرد الإخطار، بل ترك المشرع الدستوري تنظيم إصدار وإنشاء الصحف الإلكترونية للقانون، وهو ما يعني أن الصحف الإلكترونية لا يمكنها العمل بمجرد إخطار السلطات بإنشائها، بل عليها الحصول على ترخيص مسبق من السلطات قبل البدء في مُمارسة أي نشاط، وذلك وفقًا للضوابط المحددة التي ينظمها القانون الذي صدر بهذا الصدد فيما بعد، وهو قانون تنظيم الإعلام والصحافة ولائحة التراخيص الصادرة عن المجلس الأعلى للإعلام.
عقب إصدار الدستور، مرّر البرلمان قانون “التنظيم المؤسسي للصحافة والإعلام”، في ديسمبر عام 2016، وتأخر إصدار قانون تنظيم العمل الصحفي والإعلامي (قانون الإعلام الموحد)، وتم تشكيل الهيئات الثلاث: المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام والصحافة، والهيئتين الوطنيتين للصحافة والإعلام، بموجب قانون التنظيم المؤسسي للصحافة والإعلام.
ومارست هذه الهيئات اختصاصاتها التي حددها القانون، ما هيأ الساحة الإعلامية والصحفية لدور المجلس ولطبيعة قرارته المُستحدثة، حيث تمكن المجلس الأعلى للإعلام خلال تلك الفترة من توقيع جزاءات متنوعة، مثل: منع ظهور بعض الإعلامين أو الأفراد، وكذلك إلزام بعض المواقع والمؤسسات الصحفية بحذف المحتوى، ومنع الكتابة في بعض الموضوعات.
وقد تزايد هذا الدور في ظل غيابِ قانونٍ يوفر حماية للمؤسسات الصحفية والإعلامية، إلى أن وافق البرلمان على "قانون تنظيم الصحافة والإعلام والمجلس الأعلى لتنظيم الإعلام"، في شهر يونيو 2018، ودخل حيز التنفيذ بعد التصديق عليه في أغسطس 2018.
انعكست الصياغات الدستورية التي تفرق بين الصحافة الورقية والصحافة الإلكترونية على النصوص المُنظمة لعمل المواقع الإلكترونية ووسائط الإعلام الرقمي المنصوص عليها بقانون تنظيم الإعلام والصحافة، حيث جاءت أغلب هذه النصوص في صياغات مُلتبسة وغير واضحة.
ويُمكن ملاحظة مظاهر الاضطراب التشريعي الذي نتج عن التفرقة في الحماية الدستورية في مواضع مُختلفة، سواء فيما يتعلق بنطاق تطبيق القانون، الذي يتضح من خلاله التوسع في صور الرقابة على المواقع والحسابات الإلكترونية الشخصية، أو من خلال التمييز الواضح بين وسائل الإعلام التقليدية والمواقع الإلكترونية فيما يتعلق بحرية العمل ومُمارسة الأنشطة، كما أُثر الواقع التشريعي على أوضاع الصحافة الرقمية.
توسع قانون تنظيم الإعلام والصحافة في تحديد مفهوم وسائل الإعلام التي تخضع لأحكامه، ومن ثم اتسع وامتد ليشمل "جميع الكيانات والمؤسسات والوسائل الصحفية والإعلامية والمواقع الإلكترونية".
وقد ذُكرت المواقع الإلكترونية في موضع مُنفصل عن الصحف ووسائل الإعلام، وهو ما يعني أن قانون تنظيم الإعلام والصحافة لا يقتصر تطبيقه على المواقع الإلكترونية التي تعمل كظهير إلكتروني لوسائل الإعلام والصحف فقط، بل يشمل كافة المواقع الإلكترونية المصرية.
وتأكيدًا على هذا المعنى، أوضحت المادة السادسة من قانون تنظيم الإعلام والصحافة أنه "لا يجوز تأسيس مواقع إلكترونية في جمهورية مصر العربية، أو إدارتها، أو إدارة مكاتب أو فروع لمواقع إلكترونية تعمل من خارج الجمهورية، إلا بعد الحصول على ترخيص بذلك من المجلس الأعلى وفق الضوابط والشروط التي يضعها في هذا الشأن".
ونصت "المادة 19" على أن "يحظر على الصحيفة، أو الوسيلة الإعلامية أو الموقع الإلكتروني نشر أو بث أخبار كاذبة، أو ما يدعو أو يحرض على مخالفة القانون أو إلى العنف أو الكراهية، أو ينطوي على تمييز بين المواطنين، أو يدعو إلى العنصرية أو يتضمن طعنًا في أعراض الأفراد، أو سبًّا أو قذفًا لهم، أو امتهانًا للأديان السماوية أو للعقائد الدينية، ويلتزم بأحكام الفقرة السابقة كل موقع إلكتروني شخصي أو مدونة إلكترونية شخصية أو حساب إلكتروني شخصي، يبلغ عدد متابعيه خمسة آلاف متابع أو أكثر".
وهذه المادة حوت ألفاظا مطاطة دون تعريف مدلولها مما سمح للمجلس الأعلى للإعلام بأن يفرض مايشاء من عقوبات على المواقع الإلكترونية[6].
ومن الإشكاليات القانونية التي تواجه المواقع، قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات رقم 175 لسنة 2018، الذي احتوي على صور مختلفة للوسائل التي قد تتم بها بعض الجرائم التقليدية، وأعاد المُشرع تنظيمها في شكل جرائم جديدة متى اقترن تنفيذ هذه الجرائم بواسطة تقنيات الاتصال المختلفة، ووضع القانون أقساما لهذه الجرائم وعدّد صورها، وحاول التمييز بين هذه الجرائم.
في هذا الإطار، تناول قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات قسمًا خاصًا بالجرائم التي تُرتَكب بواسطة مديري المواقع والعقوبات التي قد يوجهونها في حالة تحقُّق هذه الجرائم. وتنوعت هذه الجرائم ما بين جرائم مباشرة من الممكن حدوثها من خلال أنشطة الموقع، وهو ما يضع المسئول عن إدارة الموقع في موضع المساءلة عن ارتكاب الجريمة، أو في صورة جرائم ترتبط بالتقصير في المسؤولية التي يجب أن يتحلى بها مديرو المواقع.
ورغم أن المُشرع استخدم لفظ مديري المواقع، إلا أن المسؤوليات المنصوص عليها بالقانون لا تقتصر على إدارة الموقع فقط بل تمتد لإدارة الصفحات الخاصة والبريد الإلكتروني.
ويخضع مديرو المواقع والمستخدمون عمومًا لذات قواعد المسائلة التي نص عليها قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات، ولكن يضيف المُشرع لهذه القواعد بُعدا آخر يطبق على مديري المواقع، حيث يتناول القانون نصوص تُجرِم أي فعل يتعلق بإدارة الموقع إذا كان الهدف منه ارتكاب أحد الجرائم المعاقب عليها قانونًا، ويُقصد بالجرائم المعاقب عليها قانونًا أي جريمة منصوص عليها في القوانين الجزائية المصرية، وبخاصة قانون العقوبات. على سبيل المثال، استخدم المُشرع في بداية نص المادة 27 عبارة "فى غير الأحوال المنصوص عليها فى هذا القانون"، ويُفهم من ذلك أنه لا مجال لتطبيق نص المادة 27 إذا ما ارتكبت جريمة منصوص عليها بقانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات.
وقد ميّز القانون بين القواعد التي تُخاطب مديري المواقع، وحاول أن يُعدّد صور التجريم لتشمل ثلاثة صور:
1- جريمة إنشاء الموقع بهدف ارتكاب أحد الجرائم المُعاقب عليها قانونًا.
2- جريمة إدارة الموقع بهدف ارتكاب أحد الجرائم المُعاقب عليها قانونًا.
3- جريمة استخدام الموقع بهدف ارتكاب أحد الجرائم المُعاقب عليها قانونًا.
هذا بالإضافة إلى أن نص المادة 27 من قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات، والتي تتناول عملية إدارة موقع بهدف ارتكاب أحد الجرائم المنصوص عليها قانونًا، تُعد من الجرائم المركبة التي يحتاج تحققها إلى توافر عناصر وشروط عدّة، يقع البعض منها في النصوص التي تُجرم فعل بعينه بخلاف جريمة إدارة الموقع، وهو ما يزيد هذه الجريمة تعقيدًا. استخدم المُشرع في البداية عبارة "كل من أنشأ أو أدار أو استخدم موقعًا أو حسابًا خاصًا على شبكة معلوماتية يهدف إلى ارتكاب جريمة معاقب عليها قانونًا"، فالسياق اللغوي المُتعلق بلفظ "يهدف" يختلف عن غيره من ألفاظ تحقق الجريمة ووقوعها.
فالاستهداف هو فعل أولى لا يُشترط معه تحقق الجريمة، فهو جزء من القصد الجنائي الذي يجب تحققه، وهو أمر يصعب إثباته عمومًا، ويحتاج إلى وجود حالة قانونية مستمرة مكونة من أكثر من فعل حتى يصح ثبوت فعل الاستهداف، ثم إن حدوث الجريمة لا يُشترط معه ثبوت فعل الاستهداف، فقد يحدث فعل الجريمة بشكل عرضي لمرة واحدة، دون استهداف أو تكرار[7].
أيضا من أخطر الإشكاليات التي تواجه المواقع الإلكترونية بمصر "الحجب"، حيث نص قانون تنظيم الاتصالات المصري في المادة 67 منه على إمكانية إخضاع شبكات الاتصالات لصالح السلطات المختصة في الدولة، وبالتالي، إمكانية مطالبتها بحجب المواقع دون أي قيد!
ويعد نص المادة (49) من قانون مكافحة الإرهاب أول سند قانوني واضح وموجه تجاه حجب المواقع، حيث جاء فيه: "للنيابة العامة أو سلطة التحقيق المختصة وقف المواقع المنصوص عليها في الفقرة الأولى من المادة 29 من هذا القانون أو حجبها أو حجب ما يتضمنه أي وجه من أوجه الاستخدام المنصوص عليها في هذه المادة والتحفظ على الأجهزة والمعدات المستخدمة في الجريمة"، وينقص هذا النص توضيح الخطوات الإجرائية المتبعة فيما يتعلق بحجب المواقع.
وكان لسياسات الحجب أثر كبير طال المحتوى الصحفي الذي تنتجه المواقع كمًّا وكيفًا، فمن ناحية أولى، خشيت المنصات المحجوبة أن تتعرض لما هو أبعد من الحجب. ومن ناحية ثانية، فإن المواقع غير المحجوبة خشيت الوقوع في فخ الحجب إذا تجاوزت "الخطوط الحمراء".
وتسبب الحجب في تنامي معدلات الرقابة داخل المؤسسات الصحفية بشكل كبير، بالإضافة إلى تزايد رقابة الصحفيين الذاتية على أعمالهم، ولا نستطيع أن نغفل أن ممارسة الحجب لها أثر على اقتصادات المواقع الإلكترونية، فهي سياسة طاردة للاستثمار، إذ كيف يأمن أي مستثمر مع تلك القيود أن يستثمر أمواله في موقع إلكتروني![8].
• الإشكاليات المهنية للصحافة الإلكترونية
يعد هذا المحور من أكثر الإشكاليات التي تواجه الصحافة الإلكترونية في مصر، حيث تعاظمت هشاشة أخلاقيات المهنة في سياق تراجع المهنية، والخضوع الكامل للأوامر "السيادية".
وقد أصيب أداء الصحف الإلكترونية بمصر في ظل البيئة الحالية بكثير من المشاكل المهنية نجملها فيمايلي :
- غياب الضوابـط المهنيـة، ففي ظل الخضوع للتوجيهات السيادية، أصبـح الجانب الأكبر من اهتمامات المشتغلين بالصحافة الإلكترونية المصرية هو تنفيذ هذه التوجيهات، فهُمِّشت الضوابط المهنية، وطغت صحافة البيانات الرسمية، وغاب الصحفيون عن هموم الشارع المصري ومشاكله، مكتفين بمعالجة القضايا من وجهة نظر النظام فقط.
وخلقت هذه البيئة جيلًا من الصحفيين ينقلون الأخبار ويصورونها وينشرونها بحسب المقاييس التي ترضي النظام، كما فرضت المواقع نوعًا من الكتابة المختصرة والسريعة، الشيء الذي أثَّر في العمق التحليلي للمضامين الإعلامية، وجعل منها نظرة سطحية للعالم.
كما أصبحت الصحف الإلكترونية في عملها لا تراعى مبدأ الحياد والمصداقية، وهو ما أفرز الكثير من المشاكل المتصلة أساسًا بالمحتوى الإعلامي، والضوابط المهنية التي تحكم آليات الممارسة الإعلامية، وأخلاقياتها.
من ثم، يتعرض الصحفيون بالمواقع لضغوط كبيرة، منها أن "المواقع الإلكترونية توظف عددًا قليلًا من الموظفين ليقوموا بالعمل تحت ضغط كبير من أجل إنجاز مهام ومسؤوليات متعددة، مما ترتب عليه إهمال مبدأ التخصص في الصحف الإلكترونية وغياب العمل المؤسسي، وهو مايُشكِّل أزمة في تأمين سير العمل الإعلامي بتلك الصحف"، وهو ما يطابق ما أظهرته دراسة مسحية قام بها مبكرا عام 2000 ديفيد أرانت (David Arant) وجانا أندرسون (Janna Anderson)، عن محرري الصحف الإلكترونية في الولايات المتحدة الأمريكية.
- غياب الدقة والموضوعية، ففي ظل الوضع الحالي للصحافة بمصر ، هناك مصدر واحد للأخبار وهي الجهات الحكومية الرسمية، واذا ابتعد الصحفي عن هذا الإطار يتهم بنشر أخبار كاذبة ويزج به في أتون المساءلة القانونية، وأصبح حلم الانفراد بالسبق الصحفي حلما بعيد المنال، كما أصبح الاشتباك مع قضايا الشارع من المخاطر التي لا تحمد عقباها.
- الترويج لمعلومات غير حقيقية، حيث تروج معظم الصحف الإلكترونية لمعلومات غير حقيقية عن كثير من القضايا المهمة، خاصة فيما يتعلق بالوضع الاقتصادي والسياسي، وتقوم هذه المواقع بالترويج للسرديات الرسمية التي يفضح كذبها الإعلام الأجنبي والمعارض، وقبل كل ذلك الواقع الذي يعيشه المصريون.
- الافتقاد لمدونة سلوك مهني خاصة بالمواقع الإلكترونية، فبالنظر إلى تجارب عديد البلدان المتقدمة، فإن إقرار المساءلة الإعلامية التي تحقق التوازن بين حقوق الفرد والمجتمع وحق الصحفي في حرية التعبير من خلال مجالس صحفية ولجان إعلامية مستقلة وذات مصداقية، تتبني مدونة سلوك مهني، أمر مفقود في مصرفي ظل البيئة الصحفية الحالية.
- حذف المواد الصحفية دون التنويه، حيث تقوم بعض المواقع الإلكترونية بحذف مواد صحفية بعد نشرها، دون التنويه لذلك، وهو خطأ مهني قاتل.
ويكون سبب الحذف إما أوامر سيادية، أو ضغوط سياسية أو اقتصادية، ويصل في بعض الأحيان للتغطية على وقائع فساد، وتضطر المواقع لحذفها تحت التهديد والوعيد.
- غِياب التَّخطِيط المستقبلي، فكثير من المواقع تعمل بشكل آني، دون رسم خطط مستقبلية للتطوير المهني والتقني، كما أن الكثير منها لديها عدم وضوح رؤية حول مستقبل هذا النوع من الإعلام.
- ندرة الصحفي الإلكتروني المهني، حيث أصبح الصحفي الإلكتروني عملة نادرة، في ظل توةظيف كثير من المواقع الإلكترونية لصحفيين عاديين، دون خلفيات تقنية حديثة لديهم، للذلك هناك ضعف عام في القدرات المهنية لدى معظم المشتغلين في الصحافة الإلكترونية.
- وجود "أكواد" حكومية إلزامية، حيث شكلت الأكواد الداخلية للمواقع الإلكترونية الكثير من المعوقات للعمل المهني، ومثلت عراقيل إضافية أمام تأسيس الصحف الرقمية، إذ يتحمل الموقع الإلكتروني المُرخص له المسؤولية القانونية عن أي خطأ في ممارسة نشاطه، أو مُخالفة القيم أو المعايير أو الأعراف المكتوبة (الأكواد)، الصادرة عن المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام، تحت مسمى "لائحة الضوابط والمعايير اللازمة لضمان التزام المؤسسات الصحفية والمؤسسات الإعلامية أصول المهنة وأخلاقياتها والحفاظ على حقوق الملكية الفكرية المتعلقة بمحتواها، والقواعد والمعايير المهنية الضابطة للأداء الصحفي والإعلامي والإعلاني، والأعراف المكتوبة[9].
• إشكاليات الحماية النقابية للمواقع الإلكترونية
بعد الاطلاع على قانون نقابة الصحفيين، والقوانين المنظمة لإنشاء المواقع الإلكترونية، تبين أن العاملين بالمواقع الإلكترونية محرومون من حق الحماية النقابية، خاصة الصحفيين منهم، حيث لا يوجد نصوص صريحة بقانون نقابة الصحفيين، تُلزم النقابة بقبول الصحفيين العاملين بالمواقع الإلكترونية، إلا العاملين بصحف ورقية تُطبع، ومنتظمة في الإصدار، ومرخصة من قبل المجلس الأعلى للصحافة (الأعلى لتنظيم الإعلام حاليا)، ويكون لها موقع إلكتروني، هذا هو الاستثناء الوحيد لقبول صحفي يعمل بالمواقع الإلكترونية، في عضوية نقابة الصحفيين.
وعلى ذلك نلحظ مايلى في جانب الحماية النقابية للعالمين بالمواقع الإلكترونية:
- رغم أن المجلس الأعلى للإعلام أصبح بحكم القانون يصدر تراخيص المواقع الإلكترونية بشروط تشبه شروط الصحف الورقية المطبوعة، فإنه لم يلزم نقابة الصحفيين -تشريعيا- بقبول الصحفيين العاملين بالمواقع الإلكترونية.
- المجلس الأعلى يكتفي في شروط إشهار المواقع الإلكترونية بتحديد الهيئة التحريرية الرئيسية للمواقع، دون أن يشرع للعاملين بها أي تشريعات أو لوائح تنظم عملهم وتحميهم.
- يُحرم الصحفي الإلكتروني من دخول نقابة الصحفيين بسبب عدم وجود لوائح وقوانين تنظم ذلك، رغم أن هناك جداول عدة بنقابة الصحفيين، منها "تحت التمرين"، و"مشتغلين"، و"جدول منتسبين"، ومن الأنسب أن يراعى ذلك في التشريعات المنتظرة المنظمة لعمل نقابة الصحفيين.
- لا تلعب نقابة الصحفيين أي دور في تطوير الصحفيين الإلكترونيين، ولا تسمح لهم بحضور الدورات التدريبية، التي تعقدها من خلال لجنة تطوير المهنة والتدريب بالنقابة، بسبب عدم انتمائهم بشكل قانوني للنقابة.
- ليس هناك أي لوائح تحمي الصحفيين العاملين بالمواقع الإلكترونية، في حالة فصلهم، ويلجأ الكثير من رؤساء التحرير لحذف أرشيف من يتم فصله تعسفيا، حتي لا يثبت حقه في الوجود على رأس العمل، وأشرنا من قبل لمشكلة الحذف للقوالب الصحفية دون ضابط من مواقع الصحف الإلكترونية.
- من أخطر ما يواجه صحفيو المواقع الإلكترونية بمصر عدم تفعيل دور مكاتب العمل، والهيئات النقابية، التي من المفترض أن تمر على مقار هذه المواقع، من أجل متابعة الجانب العملي لها، وتوثيقات عقود العمل.
- لا يتمتع العاملون بالصحف الإلكترونية بميزة العقد الموحد، الذي يٌلزم به المجلس الأعلى الصحف الورقية، وليس هناك ما يفرض من لوائح لإلزام إدارات المواقع الإلكترونية بالتعاقد مع الصحفيين العاملين بها.
- ليس هناك محددات مالية واضحة للعاملين بالمواقع الإلكترونية، والرواتب بحسب أهواء الإدارات المالية، وليس هناك لوائح مالية منظمة لهذا الأمر بشكل حقيقي وفاعل في هذه المواقع.
- يقع الكثير من الصحفيين الإلكترونيين في براثن الخداع من قبل نقابات وهمية غير قانونية، تفتح لهم أبواب العضوية مقابل مبالغ مالية كبيرة، أو لجوئهم لنقابة عمالية مثل نقابة العاملين بالصحافة والطباعة والإعلام، التي فتحت القيد للصحفيين بالمواقع الإلكترونية، وهي المحاولة الوحيدة الجادة لحماية نقابية لهؤلاء، ولكنها في النهاية نقابة عمالية لا تصلح أن تكون مظلة للصحفيين الإلكترونيين.
• خلاصة وتوصيات:
مما سبق يتضح أن الصحف الإلكترونية في مصر تحتاج إلى رفع كل القيود عنها، بجهد من الجهات المعنية، ومنها نقابة الصحفيين، والمجلس الأعلى للإعلام.
وفي هذا السياق، يمكن تبني مجموعة من الخطوات العملية، لتحريرها من قيودها ، ومن ذلك:
- العودة لتنوع الملكية، وعدم إخضاع الصحف الإلكترونية لشركة واحدة، حيث عاشت الصحافة المصرية في ظل تعدد أنماط الملكية، تجارب ناجحة تنافست فيها مهنيا وكانت محل اهتمام الجمهور ، مما أثري البيئة الصحفية المصرية، وفوز بعض هذه المواقع بجوائز دولية كأفضل موقع بمنطقة الشرق الأوسط .
- تحرير سوق الإعلانات من سيطرة الشركة المتحدة ، والسماح بتعدد الشركات العاملة في سوق الإعلان المصري ، حتي لا تستخدم هذه الوسيلة في التضييق على الصحف الجادة وحرمانها من مصدر هام لمداخيلها الاقتصادية .
- مراجعة شاملة للتشريعات القانونية الخاصة بالصحف الإلكترونية، والتخلص من كل القوانين سيئة السمعة التي كبلت عملها، وعلى رأسها قانون تنظيم الإعلام وقانون الجريمة الإلكترونية، وقانون الاتصالات، وقانون الكيانات الإرهابية، وقانون الإرهاب، وقانون نقابة الصحفيين .
- العودة لمسارات العمل المهني، والتخلص من سياسات إعلام الصوت الواحد ، التي أثرت بالسلب على الاداء لمعظم الصحف الإلكترونية، وجعلتها نسخا مكررة.
- توفير الحماية النقابية للصحفيين الإلكترونيين، من خلال تشريع يسمح لهم بضمهم للنقابة؛ حفاظا على حقوقهم المهنية والمالية، خاصة أن الصحف الإلكترونية وفرت آلاف فرص العمل للصحفيين.
وقد خاض الصحفيون معارك عديدة لاسترداد حقوقهم، وجاء الوقت ليخوضوا معركة كبيرة لعودة مهنتهم لمسارها، والتخلص من كل القيود التي فرضت عليهم خلال العقد الماضي، وزجت بالصحافة عامة والصحافة الإلكترونية خاصة في نفق مظلم، ما أفقد مصر جزءًا من قوتها الناعمة.
• المصادر :
[1]عايدة سالم، "عن الرئيس و«إعلامه».. ما جرى خلال 10 سنوات" ، مدى مصر ، 30 يونيو 2023، https://linksshortcut.com/Womqt
[2] "شركة تمتلكها المخابرات المصرية وتسيطر على الإعلام تعلن تغييرات في هيكلها وخططها" ، القدس العربي، 30 مايو2021، https://goo.su/qafV
[3] "قصة نجاح.. كيف أعادت «المتحدة» الريادة المصرية فى الفن والإعلام؟" ، الدستور ،30 يونيو 2024 ، https://www.dostor.org/4747351
[4] "المتحدة للخدمات الإعلامية درع مصر فى مواجهة قوى الشر.. تصدت للتيارات الظلامية بـ"المنتجات التنويرية".. أوقدت روح الانتماء والبطولة فى النشء.. والأسرة التفت حول أعمالها الراصدة لإنجازات الوطن وحكايات الأبطال" ، اليوم السابع، 24 مارس 2021، https://linksshortcut.com/FtpyT
[5] "المتحدة للخدمات الإعلامية.. قصة نجاح في الدراما والإعلام والرياضة" ، الوطن ، 28 يونيو 2024، https://linksshortcut.com/NlBkX
[6] "أزمة غياب الحماية الدستورية للمواقع الصحفية الإلكترونية" ، موقع المسار، 12 أبريل 2021 ، https://linksshortcut.com/ZlVUe
[7] "كيف يضع قانون الجريمة الإلكترونية مسؤوليّات عدّة على مديري المواقع؟" ، المسار، 24 اكتوبر 2021 ، https://linksshortcut.com/VFRWf
[8] محمد الطاهر ، "غلق النوافذ.. الرقابة على الانترنت في مصر" ، مؤسسة حرية الفكر والتعبير، 19 فبراير, 2018، https://linksshortcut.com/yYnOt
[9] "أخلاقيات الصحافة الإلكترونية العربية: رؤية جديدة للممارسة المهنية"، مركز الجزيرة للدراسات، 11 فبراير 2019، https://linksshortcut.com/ZetUN