الفساد في مصر .. "إكسير الحياة" للنظام الانقلابي
الأحد - 3 يوليو 2022
- في غيبة كاملة للمحاسبة.. وقائع فساد الكبار في مصر تزكم الأنوف.. والمخفي منها أكثر من الظاهر
- مساع سيادية لإغلاق ملفي فساد "الصحة" وصيدليات "1911" بعد ضياع 7 مليارات جنيه على البنوك
- هروب صاحب شركة مقرب من دائرة السيسي بعد استيلائه على 10 مليارات جنيه من 4 بنوك مصرية
- موظف بالبنك الأهلي مرتبط بشخصيات نافذة في الدولة يستولي على 22 مليون جنيه ويحولها إلى أمريكا!
- مماطلة واضحة في محاسبة قاض متهم بالحصول على رشاوى من تجار مخدرات وأسلحة مقابل تبرئتهم
- سكوت النظام عن محاسبة القاضي سامي محمود هو لقاء أحكام جائرة أصدرها بحق "الإخوان" ظلما وزورا
- إسناد المشروعات بالأمر المباشر وسيطرة الجيش على أغلبها ومنحها لمقاولين من الباطن يضاعف تكلفتها
- قضية الآثار المحكوم فيها على حسن راتب بالسجن 5 سنوات كشفت النهب الرسمي المنظم للقطع الأثرية
- "الشفافية الدولية": مصر بالمرتبة 11 عربيا والـ117 عالميا من 180 دولة في مكافحة الفساد لعام 2021
- "المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية": خسائر مصر من الفساد تكلف أكثر من 40 مليار جنيه سنويا
توالت خلال الأيام والأسابيع الماضية وقائع فساد الكبار في مصر بشكل يزكم الأنوف، والمخفي منها أكثر من الظاهر، خاصة بين المقربين للنظام، حيث شهدت النيابات والمحاكم أكثر من وقائع فساد متتالية سرق فيها أكثر من 30 مليار جنية.
يأتي ذلك في الوقت الذي تعاني فيه مصر من أزمة مالية خانقة، مع ما أكده تقرير لمنظمة "الشفافية الدولية" صدر في بداية العام الجاري من أن مصر أحتلت المرتبة الـ11 عربيا والـ117 عالميا من 180 دولة في مكافحة الفساد عن عام 2021، وهي الدرجة المتدنية التي ظلت عليها مصر منذ تقرير 2020، ومن خلال سطور هذا التقرير نفتح هذا الملف.
5 وقائع تكشف حجم ما يسرقه مقربون من النظام
في الوقت الذي تتواصل فيه محاكمة 4 متهمين في القضية المعروفة إعلاميا بـ"رشوة وزارة الصحة"، وبينهم طليق وزيرة الصحة الدكتورة هالة زايد، والتي كُشف عنها في تشرين الأول/ أكتوبر 2021؛ قد تفجرت قضايا فساد جديدة وسطو على أموال الدولة من قبل مقربين من النظام الحاكم.
تلك الجرائم تأتي في ظل معاناة الدولة من أزمات مالية وتراجع للاحتياطي النقدي من العملات الأجنبية، ووسط ضغوط اقتصادية وحاجة للأموال لتوفير السلع الأساسية مع بلوغ الحرب الروسية الأوكرانية شهرها الرابع، وذلك بجانب عجز الموازنة وتوجيه النسبة الأغلب منها لتسديد الديون الخارجية.
ولم تكد تهدأ مشاعر الغضب في الشارع المصري إثر حكم قضائي في 6 حزيران/ يونيو الجاري بإفلاس "صيدليات 1911"، والتي ارتبطت في بداياتها بأجهزة سيادية، وسطا أصحابها على نحو 7 مليارات جنيه من أموال البنوك المصرية، تم تداول أنباء عن هروب رجل أعمال مصري بأموال البنوك.
وأكدت مواقع صحفية مصرية الخميس الماضي، هروب صاحب شركة "بيت الخبرة للإيجار التمويلي" خالد عبدالله، لينضم إلى العشرات من رجال الأعمال والمسؤولين الهاربين في العاصمة البريطانية لندن، وذلك بعد الاستيلاء على 10 مليارات جنيه من 4 بنوك مصرية منها "سايب" و"البركة"، و"فيصل الإسلامي".
عبدالله، الشهير بلقب "إمبراطور التمويل"، أحد رجال الأعمال المقربين من النظام، ويعمل في السوق المصرية طوال عهد عبدالفتاح السيسي ولم يتعرض خلالها لأية مضايقات أو أزمات ككثير من رجال الأعمال الذين سطا النظام على أموالهم وبينهم صاحب شركة "جهينة" صفوان ثابت، وغيره.
المثير للجدل أن مسؤولين كبارا يشاركون في إدارة "مجموعة بيت الخبرة"، بينهم الرئيس التنفيذي للمجموعة رئيس وزراء مصر الأسبق في عهد عبدالفتاح السيسي، إبراهيم محلب، ومحسن عادل رئيس هيئة الاستثمار السابق ونائب رئيس البورصة المصرية سابقا.
كما أن هروب رجل الأعمال بهذه المليارات يأتي في ظل معاناة البنوك المصرية الحكومية والخاصة من ضعف التمويل، واضطراب سوق الصرف، وقرارات حكومية برفع سعر الفائدة في آذار/ مارس، وأيار/ مايو الماضيين.
وفي سياق جرائم السطو على أموال الدولة، وفي 20 حزيران/ يونيو 2022، جرى الكشف عن جريمة استيلاء موظف كبير في البنك الأهلي المصري (حكومي) على مبلغ 22 مليون جنيه (1.2 مليار دولار) من أموال المودعين في البنك وتحويلها إلى أمريكا قبل أن يهرب إليها.
واقعة السطو على أموال البنك الأهلي صاحب أكبر محفظة لودائع العملاء في مصر، بنحو 2.40 تريليون جنيه بنهاية أيار/ مايو الماضي، تأتي إثر تحصل البنك على 550 مليار جنيه من أموال المودعين من بيع شهادات الـ 18 بالمئة التي طرحتها الحكومة الشهرين الماضيين.
وفي واقعة خامسة مثيرة، تحقق نيابة أمن الدولة العليا بالقضية المتهم فيها المستشار سامي محمود علي عبدالرحيم (56 سنة) القاضي بمحكمة استئناف الإسماعيلية، بالحصول على رشاوى من رجال أعمال وتجار مخدرات وأسلحة كانوا متهمين لديه في المحكمة التي يرأسها، مقابل منحهم أحكام بالبراءة.
ويعد القاضي المتهم من رجال القضاء المقربين من النظام، وأُسندت إليه العديد من القضايا التي أدان فيها أعضاء وقيادات جماعة الإخوان المسلمين، بينهم مرشد الجماعة محمد بديع، والقياديان محمد البلتاجي وصفوت حجازي و92 آخرون بالسجن المؤبد 25 عاما.
وإزاء الوقائع الخمسة وغيرها، طالب البعض البنك المركزي والسلطات النيابية والقضائية المصرية بتحقيق عادل وشفاف حول تلك الجرائم ومدى ارتباطها بشخصيات نافذة سهلت عمليات السطو على أموال البنوك.
"فساد بالأمر المباشر"
ورغم أن مصر تعلن عن محاربة الفساد، وقامت في كانون الأول/ ديسمبر 2021، بتنظيم المؤتمر الدولي لمكافحة الفساد بمدينة شرم الشيخ بحضور 76 دولة؛ فإن الفساد على أرض الواقع طال أغلب قطاعات الدولة خاصة في ظل قرارات إسناد المشروعات بالأمر المباشر، وسيطرة الجيش على أغلب المشروعات ومنحه الأعمال من الباطن لشركات ومقاولين أصغر.
وهنا، أكد مهندس ومقاول لـ"عربي21" أن "الفساد صار بالأمر المباشر"، موضحا أنه "في تلك الإسنادات فالفساد لا حدود له، إذ إنه لكي يحصل أي مقاول أو شركة على مقاولة من الباطن فعليه أن يدفع رشوة أو إتاوة لمن يدير تلك المشروعات من شخصيات عسكرية".
وأوضح أنه "في مقابل التزام الشركة أو المقاول بالاشتراطات القاسية، وغرامات التأخير أو جزاءات مخالفة المواصفات، فإنها طوال فترة عملها يتعين عليها تقديم تنازلات كثيرة لمن يدير المشروع ومن يشرف عليه من الجهات الأعلى، ومن يرفض "تفتيح مخه" يتم عقابه بعدم تسلم المشروع وتأخير المستحقات".
تلك الحالة من الفساد في مصر، عبر عنها التقرير السنوي لـ"مؤشر مدركات الفساد في العالم" الصادر عن منظمة "الشفافية الدولية" في كانون الثاني/ يناير الماضي، والذي احتلت فيه مصر المرتبة الـ11 عربيا والـ117 عالميا، من 180 دولة، عن عام 2021، وهي الدرجة المتدنية التي ظلت عليها مصر منذ تقرير 2020.
فساد الاثار
ومؤخرا توالت قضايا الاتجار في الاثار للكبار ومقربين من النظام ولعل أبرزها قضية البرلماني السابق علاء حسانين و5 آخرين والذين تم معاقبتهم بالسجن المشدد 10 سنوات، وذلك بقضية الآثار الكبرى، و تم الحكم على رجل الأعمال حسن راتب بالسجن 5 سنوات.
وكانت النيابة العامة قد وجهت إلى راتب تهمة تمويل النائب السابق حسانين وعصابته بملايين الجنيهات للتنقيب عن الآثار والاتجار فيها، كما وجهت إلى حسانين والمتهمين الآخرين، وعددهم 19 متهما، تهمة التنقيب عن الآثار داخل المحافظات المصرية والاتجار فيها وتهريبها للخارج.
الفساد في مصر من "الركب" إلى الحناجر
مؤشر "مدركات الفساد"، جاء هذا العام ليكشف حجم الفساد في مصر، ويفضح الأنظمة العربية التي تتعايش معه وتقنن أدواته عبر شخصيات ومؤسسات رسمية!
دفع الأمر المنظمة الدولية إلى التساؤل، عن أسباب عدم تحقيق أي دولة عربية، تقدم في أوضاع الفساد بعد ثورات الربيع العربي. فالإمارات وقطر ، وهما في مقدمة قائمة الدول العربية محاربة للفساد، تتنافسان على المرتبة الأولى منذ سنوات، لأنهما اعتمدتا على التكنولوجيا وحكومة الإدارة، وإصدار القوانين للحد منه، إذ حققت الامارات 69 درجة، من أصل مائة درجة لتحل في المركز 24 عالميا، تليها قطر بـ 63 درجة في المركز 31 عالميا، بينما مصر ما زالت على الطريقة الميري "محلك سر" في المنطقة الحمراء، وتحتل رقم 11 على مستوى الدول العربية و117 عالميا.
ومع التجاهل الرسمي والإعلامي للحدث، وجدنا زخما هائلا من الإعلام الدولي، وشخصيات أجنبية، تتساءل في دهشة، كيف أن الفساد توغل في كافة المؤسسات الحكومية والعامة بهذه الطريقة، بينما كانت ثورات الربيع العربي وبخاصة مصر، قد اشتعلت احتجاجا على الفساد والمحسوبية، وإهدار ثروات البلد عبر شخصيات رسمية وسياسية، وثيقة الصلة بقيادات الدولة ومن النواب والدائرة الضيقة المحيطة بهم والمستفيدين منها!
تعجبت المستشارة الإقليمية لمنطقة الشرق الأوسط في منظمة الشفافية الدولية كندة حتَر قائلة: إن عدم تغيير الحال عما كان عليه قبل ثورات الربيع العربي، هو رسالة بحد ذاته، فهناك قوانين تغيرت وقواعد وضعت، مع ذلك لا يوجد تغيير حقيقي في المنظومة الحاكمة للفساد والثقافة السائدة المحيطة به
وأشار التقرير إلى وجود فاسدين، يرتبطون مع بعضهم بسلسلة واحدة، تعيد إنتاج فاسدين جدد، وكلهم يخشون تقديم أحد الفاسدين للعدالة، وكما تقول كندة حتر: "إن الفساد السياسي الواسع في المنطقة، لا يتعلق بسجن الفاسدين، وإنما هناك خوف من وجود كبش فداء في النهاية".
لقد غابت المساءلة، فها نحن نرى برلمانا يستجوب الحكومة على وقائع فساد في وزارة الصحة، ولم تحاكم وزيرة وما زالت رسميا في إجازة، بينما زوجها السابق ونجلها قد أحيلا للتحقيق في قضية فساد، ضبطت داخل مكتبها الحكومي
وأحيل أستاذ جامعي للتحقيق بعد مطالبته بإحالة رئيس جامعته للتحقيق في مخالفات مالية، بينما توقف النشر بعد القبض على رئيس جامعة آخر في قضية رشوة، وبعد إحالة لواء مساعد لمحافظ القاهرة، في قضية أكثر خطورة
هذه الوقائع وأمثالها، أثارت الباحثين، وجعلتهم يتعجبون من سيطرة السلطة التنفيذية على السلطة التشريعية، وتدخلها في أمور القضاء، بما جعل استقلال السلطة القضائية منقوصا في محاسبة الفاسدي
المؤسسات الحكومية والعامة، تُؤمر بصرف مليارات الدولارات، والاقتراض بنهم من البنوك المحلية والدولية، وترسي المناقصات والمزايدات بالأمر.
وعدلت قوانين مهمة مثل قانون "المزايدات والمناقصات" الذي أتاح حرية الإسناد للمناقصات والصرف للمال بضوابط يسهل الخروج عليها، من أي مسؤول لا يتحلى بالانضباط الأخلاقي.
وفي غياب المساءلة، لم يطالب أحد بعودة الأموال المنهوبة في الخارج، التي كانت أحد مطالب الثورة.
وفي غياب الشفافية والمراقبة الشعبية، لا يستطيع المواطن أن يعرف كيف تصرف ميزانية دولته، ولا يشارك في وضع أولويات المال الذي يشارك في صنعه وتحمل تبعاته.
وساهم غياب المشروع السياسي لثورة يناير، ومعه ثورات الربيع، في ألا يتوقف الفساد عند "الركب" كما كان في النظام السابق، الذي كان ترتيبه 114 عالميا، بل زاد الآن ليبلغ الحناجر، بعد أن استقر لعامين عند المرتبة 117 من بين 180 دولة تخضع للتقييم دوريا. سيزيد الفساد حتما، طالما أصبح للفساد قبول شعبي، مع إدارة سياسية، تنتهك حقوق الإنسان، وتعادي الديمقراطية.
الفساد في مصر يستنزف 5 مليارات دولار سنويّاً
ولم تفلح "الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد" التي أطلقها النظام في مصر في بداية عهد السيسي ، في تقويض الفساد، بل تبدو المخالفات الرقابية على أشدها هذا العام، حيث تزامنت مع احتفاء دول العالم باليوم العالمي لمكافحة الفساد في التاسع من ديسمبر/ كانون الأول الجاري مع حكم قضائي بمعاقبة رئيس جمعية مكافحة الفساد في مصر، حمدي الفخراني، بالحبس 4 سنوات وغرامة مالية، إثر إدانته بطلب رشوة واستغلال النفوذ.
وقدّر المركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية (منظمة مجتمع مدني)، خسائر مصر من الفساد بأكثر 40 مليار جنيه (5.1 مليارات دولار).
وقال المركز: "رغم أن السيسي قد تعهد بالعمل على مكافحة الفساد، وأن رئيس الوزراء الأسبق إبراهيم محلب قد تقدم باستراتيجية للرئيس لمكافحة الفساد، إلا أن المركز المصري يؤكد أنه لا استراتيجية حقيقية لمحاربة الفساد دون إشراك المواطن فيها، وهو صاحب المصلحة الأول في حماية المال العام".
ودعا المركز لإسقاط القانون رقم 32 لعام 2014، الذي يحول دون المواطنين وحقهم المشروع في الدفاع عن المال العام أمام القضاء المصري، الذي يتعيّن على الحكومة احترام وجوده وتنفيذ أحكامه.