المثقف الإسلامي المظلوم.. وأزمة مصر الوجودية!
السبت - 5 أبريل 2025
د. سليمان صالح
سيطرة الاستبداد العسكري أضعفت مصر في كل المجالات، وخلقت أزمات لم ينتبه لها أحد، رغم خطورتها على المستقبل، ومن أهمها الأزمة الثقافية التي لم يتمكن أحد من مناقشتها أو طرح أسئلة تشكّل أساسًا لتغيير الواقع، وهي أسئلة تتطلب الإجابةُ عليها شجاعةَ العلماء، وخيالَ الثوار، وحريةَ الحوار.
من أهم تلك الأسئلة: هل يليق هذا الإنتاج الثقافي بشعبٍ بلغ تعداده أكثر من مائة مليون إنسان؟ وهل هؤلاء هم المثقفون المصريون؟ وكم عدد الكتب التي تُنشر في مصر؟
بكل شجاعة، أُعلن أن الثقافة في مصر قد مرت بمحنة منذ عام 1952، تتزايد حدتها كل عام حتى الآن، وأن هذه الأزمة تدمر قوة مصر وقدرة أبنائها على الإبداع والابتكار، وتطوير التعليم وبناء المستقبل؛ فالنهضة الثقافية تشكل أساسًا لثورة العقول، وإنتاج الأفكار، وحل المشكلات، وبناء المجتمع.
إنتاج العلمانيين فقط
وهذه الأزمة كانت نتيجة لتحالف النظام الاستبدادي العسكري، الذي فرض الطابع العلماني للدولة، مع نخبة ثقافية متغربة اجتهدت في استخدام كل الوسائل الإعلامية والثقافية لفرض القيم الغربية وتحقيق أهداف الاستعمار الثقافي، ويفتقد إنتاجها للأصالة، فمعظمه إعادة إنتاج رديئة للثقافة الغربية، وهجوم على الإسلام أفقد المصريين الثقة في قدرتهم على تحقيق التقدم.
وفي الوقت نفسه، تمّت محاصرة المثقفين الإسلاميين، ومنع نشر إنتاجهم، والتقليل من قدرتهم على الوصول إلى الجماهير، واستنزاف حياتهم في معارك جانبية؛ لمنعهم من تقديم إنتاج ثقافي يشكّل أساسًا لنهضة إسلامية. وهذا يعني أن معظم الإنتاج الثقافي الذي تبنّته مؤسسات الدولة، ونشرته وروّجت له، كان مصنوعًا لتزييف وعي الشعب المصري وفرض الخضوع والاستسلام للديكتاتورية والاستعمار الثقافي.
قيود على الإسلاميين
ظلت كل مؤسسات الدولة الثقافية تتعامل مع المثقف الإسلامي باستكبار، فترى أن إنتاجه يفتقد الشروط التي وضعتها النخبة التابعة للسلطة وللغرب؛ فهو لا يقدّم أفكارًا مثيرة تتحدّى الأخلاق والقيم، وتثبت تخلّف المجتمع لتمسّكه بثقافة قديمة مستمدة من الإسلام.
هكذا تعرّض المثقفون الإسلاميون لظلم شديد منذ عام 1952 حتى الآن، فلم يُنشر لهم سوى القليل، عن طريق دور نشر خاصة، وفي كثير من الأحيان على نفقتهم. واضطرّ كثير منهم إلى التوقف عن الإنتاج بسبب ضغوط الحياة والمجتمع، أو وضع إنتاجهم في الأدراج ليعيدوا قراءته من حين لآخر، وليشعروا بمرارة الظلم، وقسوة الأيام، ووجع القهر.
الصراع حول الحرية
يُكرّر المثقفون العلمانيون المتغرّبون مقولة فولتير: "إني أختلف معك في الرأي، لكنني مستعد أن أضحّي برأسي من أجل حماية حقك في التعبير عن رأيك"، لكن الأحداث تبرهن على أنهم يستخدمونها للخداع والتضليل، فهم على استعداد للتحالف مع الاستبداد لقطع رؤوس كل المثقفين الإسلاميين الذين يكافحون ضد الاستعمار القديم والجديد، ويمكن أن يقودوا الأمة إلى التحرر والاستقلال الثقافي والحضاري.
إنهم يريدون حريّتهم في الهجوم المستمر على الإسلام، دون أن يتمتع المثقفون الإسلاميون بحقهم في الدفاع عنه، ويرون أن حرية الإبداع تتمثّل في استخدام نظريات دارون، وفرويد، وماركس، وتدريس مسرح العبث في الجامعات، ونقل الأفكار الغربية بحجّة أن المجتمع لا يمكن أن يتقدّم إلا باتباع خطى أوروبا في إبعاد الدين عن الحياة.
لذلك، تعامل العلمانيون الذين سيطروا على وزارة الثقافة ومؤسساتها مع المثقف الإسلامي كعدو، فهو يتحدّث عن الحرية بمعانٍ مختلفة، ويربط بين الحرية والمسؤولية، ويدافع عن حقّ الأمة في الاستقلال عن الغرب، والتحرر من سيطرته.
تحالف أصحاب المصالح
وجد المثقفون العلمانيون، ذوو الاتجاهات المختلفة، أن الحفاظ على مصالحهم يتمّ عبر التحالف مع السلطة المستبدة ضد المثقفين الإسلاميين، ومنعهم من التعبير عن آرائهم ونشر إنتاجهم، مع الاستمرار في الهجوم على الإسلام، وإثارة أكبر قدر من الضجّة عندما يتصدّى الأزهر لهم ويمنع نشر بعض إنتاجهم.
وكم استغلّوا تلك الفرص لإقامة حفلات النحيب على حرية الإبداع الضائعة، وتصوير الإسلام على أنه قاسٍ في مواجهة الأفكار المخالفة.
وقد قام فاروق حسني، وزير الثقافة الأسبق، بشراء ولاء المثقفين العلمانيين لاستخدامهم في الهجوم على الإسلام، فوصف الفتح الإسلامي لمصر بأنه "غزو استعماري"، ومجّد الرموز الفرعونية، وفتح المجال لسيطرة الاستعمار الثقافي.
لذلك، توحّد هؤلاء المثقفون العلمانيون بعد ثورات الربيع العربي للدفاع عن حرية الإبداع، بحجة الخوف عليها من الإسلاميين، وحاصروا وزارة الثقافة "لحمايتها" منهم، فهم يعتبرون أنها مملوكة لهم، وهي بالفعل كانت رمزًا لسيطرتهم، ومنها حصلوا على المال، والشهرة، والجوائز، والوجاهة، والترف.
جوائز للموالين وسجون للمعارضين!
في بداية الثمانينيات، أدرك كثير من المثقفين شروط الواقع، وأن الحصول على الشهرة والعمل في وسائل الإعلام يمرّ عبر مكاتب الضباط في الأجهزة الأمنية، وخاصة مباحث أمن الدولة، فطبّقوا الشروط على أنفسهم، ونفّذوا الأوامر، وقدّموا فروض الولاء والطاعة، وكان من بينها البحث عن روايات ضعيفة في كتب التاريخ تشوّه صورة الإسلام، ثم تضخيمها لإثبات عدم صلاحية الإسلام لهذا العصر.
وكانت أجهزة الأمن – وما زالت – تضمن تقديمهم كمبدعين أحرار، وفتح المجالات أمامهم ليبنوا القصور، ويمتلكوا السيارات الفاخرة، وتُحوَّل قصصهم إلى أفلام ومسلسلات.
أمّا الذين رفضوا الشروط، وتمسّكوا بحقهم في الدفاع عن الإسلام، وتحكيم ضمائرهم، والاعتزاز بهويتهم، فقد وُصفوا بأنهم أغبياء، ومتخلّفون، ومتعصّبون، ومتطرّفون، وإرهابيون، وتعرّضوا لحرب طاحنة، حتى في الجامعات التي أصبحت تحت سيطرة أجهزة الأمن، فاضطرّ كثير منهم إلى الهجرة أو الصمت.
وفي حالات قليلة أو نادرة، نجح بعض المثقفين الإسلاميين في كسر الحصار عن طريق نشر كتبهم العلمية في دور نشر عربية، ورغم جودة هذا الإنتاج، حُرموا من تولّي المناصب الجامعية أو حتى من الحصول على جوائز الجامعات.
وجاء الانقلاب العسكري عام 2013 ليكشف الحقيقة بوضوح: إن مكان المثقف الإسلامي هو السجون أو المنافي، وقد فُصلوا من الجامعات؛ لحرمان الأمة من إنتاجهم الثقافي والأدبي والعلمي، لأنهم أحرار لا يقبلون الضيم والذلّ والخضوع، ويحلمون بتحرير أوطانهم من الاستعمار والاستبداد.
هذه الأزمة أضعفت مصر، وشكّلت مأساتها، وأدّت إلى فرض سيطرة الاستعمار الجديد، وزيادة التبعية للغرب، وستؤدي إلى انهيار المجتمع؛ فالظلم يدفع الدول إلى خراب العمران، والثقافة أساس التقدّم، الذي لا يمكن أن يتحقّق بحرمان الأمة من الثقافة الإسلامية.