من التفكيك إلى التشظي.. رحلة الوعي في قبضة الإعلام الرقمي
الاثنين - 22 سبتمبر 2025
إيمان الجارحي
انتقلنا من مرحلة التفكيك – التي كانت تحتاج إلى وعي نقدي لفهم الخطاب الإعلامي – إلى مرحلة التشظي حيث تتفتت الفكرة وتتحول إلى شظايا متنافرة تخاطب اللاوعي أكثر مما تخاطب العقل.
عندما كنّا نقرأ المقالات في الجرائد الورقية كنّا ندخل إلى عالم محدّد الملامح، لكل جريدة لون واحد، ولكل لون عدد محدود من الكتّاب، فلا يضيع القارئ بين أصوات متنافرة.
المقال يصل إلينا محمَّلًا بفكرة واضحة لا تعكّره تعليقات، ولا يُشوّش عليه صخب الجدل الفوري، أما الأخبار فكانت مجرّدة نسبيًا لكنها بطيئة في ملاحقة الأحداث.
هذا النقص كان يسده التلفاز والإذاعة بنشرات الأخبار ليُصنع إيقاعٌ ثابت للوعي: قراءة صباحية مع الجريدة، ومتابعة مسائية عبر الشاشة.
اليوم تغيّرت المعادلة تمامًا، كل شخص صار كاتبًا ومحللًا ومعلّقًا في اللحظة نفسها، والفكرة التي كانت تصل للقارئ بهدوء عبر كاتب العمود تضيع الآن وسط مئات التعليقات والجدالات والأخبار، فصارت تسبق الزمن لكنها خسرت الدقة، وانفتحت الأبواب على مصراعيها أمام الشائعات والتهويل.
لم تعد "السوشيال ميديا" مجرد وسيلة للتواصل الاجتماعي أو فضاء أوسع للشباب للتعبير عن آرائهم بعيدًا عن قيود المؤسسات، بل تحولت من ثورة تكنولوجية استخدمها الشباب لتحرير وعيه وبلاده إلى ثورة مضادة على الوعي واللاوعي معًا.
صارت منصات التواصل تبتلع العقول وتعيد تشكيلها في مسارات غير محسوبة حتى غدت أخطر من أي أداة إعلامية سبقتها.
ولم تصبح مجرد أداة للتسلية، بل تحولت إلى مصنع واسع للقناعات السريعة: رسائل متكررة، صور متدفقة، وترندات مصطنعة تُبنى فوقها تصوّرات هشّة يظن الناس أنها حقائق ثابتة، لكنها في الحقيقة قناعات قابلة للتوجيه والتلاعب لأنها نشأت في اللاوعي، حيث يُزرع اللامنطق حتى يصبح جزءًا من التكوين النفسي للجمهور المتلقي "built in".
هكذا وجدنا أنفسنا نغادر زمن الوعي الواضح والمستقر لنهيم في وعي سريع هشّ ينهار مع أول اصطدام حقيقي.
وفي هذا الإطار يمكن التمييز بين ثلاث درجات أساسية للوعي:
الأول: الوعي السطحي (Peripheral Awareness): يتأثر مباشرة بالترندات والشعارات والهاشتاغات.
ثانيًا: الوعي النقدي (Critical Awareness): يتعامل مع الرسائل الإعلامية بفحص وتحقق ومقارنة للمصادر.
ثالثًا: الوعي العميق أو الاستراتيجي (Deep/Strategic Awareness): يوظف الإعلام نفسه كأداة لنشر خطاب ورؤية استراتيجية بدل الاكتفاء بالتلقي.
وهذا الأمر يذكرني بأيّام الرئيس الشهيد محمد مرسي، حين شاركت في دورة للمركز الثقافي البريطاني عن تمكين المرأة المصرية، حيث دخلت بصفتي الشخصية لا الحزبية (كنت مسؤولة لجنة المرأة بحزب الحرية والعدالة)؛ لتفادي أي حساسيات. ما لفت انتباهي أن الحديث عن شعبية الرئيس كان يُقاس بمؤشرات السوشيال ميديا الوهمية لا بنتائج الانتخابات الحقيقية.
عندها أدركت أن الوعي لم يعد يُبنى بالمنطق وحده، بل صار يتشكل عبر تصورات وكلمات لا تصف حقيقة المشهد والصور التي يتم نشرها، ليصل الحال إلى أن أصبحت تكذب عينيك وتصدق ما يتم تصديره وترويجه ليصبح جزءًا لا ينفصل عن صاحبه. ومن هنا أيقنت أن الدعوة والعمل العام سياسيًا أو خدميًا يحتاجان إلى لغات وأدوات جديدة لمخاطبة هذا الوعي العابر للشاشات.
ولكن للأسف مظاهر هذا التحوّل لم تقف عند هذا الحد، بل تغلغلت على حين غفلة من الجميع إلى قلب التيار الإسلامي، وهذا ما جرى في إعادة تعريف مفهوم الانتصار عند الإسلاميين.
كان التمسك بالفكرة والاستمرار في المقاومة في حد ذاتهما انتصارًا يحفظ للفكرة قداستها وللمشروع وضوحه، لكن مع هيمنة الإعلام الرقمي صار النصر يُختزل في أرقام أو صور أو أحداث ملموسة سهلة الصنع وسهلة الانهيار، وهكذا وجدنا أنفسنا أمام معضلة الانتصارات الوهمية التي ما إن يُكشف زيفها حتى تترك مردودات عكسية تضعف الفكرة بدل أن تعززها.
والتاريخ له دروسه، فبعيدًا عن سردية ناصر والسادات كان الشعب المصري – وفي قلبه الإخوان المسلمون – واعيًا أن الهزيمة لا تعني بالضرورة انكسارًا، وأن الانتصار لا يعني بالضرورة مكسبًا.
وكانت البداية عام 1948م، فرغم هزيمة الجيوش العربية وُلد انتصار في وجدان الشعوب عبر رفض شرعية الكيان الوليد، وبمشاركة كتائب الإخوان واللجان الشعبية كانت بطولات الشعوب في قلب المعركة. أما في 1967 فقد صنعت الهزيمة شرخًا عميقًا وانكسارًا حقيقيًا، ليس فقط لاحتلال مزيد من الأرض، ولكن لإخراج الشعب من المعادلة، وسبقه القمع والتنكيل، لكنه لم ينجح في قتل روح المقاومة.
ثم جاءت حرب 1973 حيث انتصر الجيش عسكريًا، لكن الفكرة انهزمت على طاولة كامب ديفيد.. لقد تحقق النصر على الأرض، لكن الهزيمة الفكرية ابتلعت ثماره، فكان أول مسمار يدق في نعش روح المقاومة والقضية.
ومع كل هذه الأحداث والتطورات الملاحظة والسريعة يبرز السؤال الأخطر: هل وقع الإسلاميون في الفخ؟
هل صُنعت لهم انتصارات وهمية استنزفت طاقتهم حتى صاروا يُذبحون ببطء "بسِكّين بارد"؟
لقد تحولت لحظات الحشد والضجيج الإعلامي إلى مصائد وعي تُغري بالاحتفال، لكنها في حقيقتها كانت أدوات استنزاف تُبعد الفكرة عن نقائها وتغرقها في حسابات زائفة.
ومع ذلك، فإن هذا لا ينتقص من قدر الأبطال وصمودهم وتضحياتهم، فالنماذج المضيئة مثل الشهداء الرئيس مرسي وعاكف والسنوار وهنية لم تكن صناعة سوشيال، بل خرجت من رحم المعارك وميادين الجهاد.
هؤلاء جسّدوا أن الانتصار ليس صورة عابرة، بل مسار ممتد، وأن الفكرة تبقى حيّة حين تجد رجالًا مستعدين للتضحية في سبيلها.
وختامًا، النصر الحقيقي ليس رقمًا ولا ترندًا، بل النصر والهزيمة لا تُقاسان فقط بالمعارك ولا بالنتائج اللحظية. النصر أن تبقى الفكرة حيّة، وأن يصمد أصحابها أمام محاولات التزييف والإغراق في الوهم. والهزيمة الحقيقية ليست خسارة جولة، بل ذوبان الفكرة في المادية الزائفة حتى تفقد بوصلتها.
لقد علّمتنا التجارب أن الانتصارات الوهمية سرعان ما تتبخر، أما الانتصار الحقيقي فهو ما يظل ممتدًا في الضمير الجمعي، يورّثه جيل إلى جيل.
والسؤال يبقى مفتوحًا: هل سنكتفي بأمجاد لحظية تُستهلك على الشاشات، أم نبني وعيًا قادرًا على الصمود وصناعة نصرٍ ممتد؟ وهل سنسعى لامتلاك أدوات الوعي وأن نكون نحن صُنّاع الإعلام لا أن نتحول إلى مجرد صناعة في يد الإعلام؟
المصادر:
- ريتشارد إي. بيتي & جون كاتشوبو، – Communication and Persuasion (1986).
- دوغلاس كيلنر & جيف شير، – Toward Critical Media Literacy (2005).
- جيمس بوتر، – Media Literacy (2019).
- روبرت إنتمن – Framing: Toward Clarification of a Fractured Paradigm (1993).
- جون فلافل – Metacognition and Cognitive Monitoring (1979).