فوز الحرية في انتخابات الصحفيين المصريين.. هل يُصلح ما أفسده الانقلاب؟!
الاثنين - 19 مايو 2025
حنان عطية
في الثالث من مايو 2025م، وفي حين كان العالم يحتفل باليوم العالمي لحرية الصحافة، كانت مصر على موعد مع حدث استثنائي هز أركان السلطة الحاكمة. حدثت وقائعه في نقابة الصحفيين مع فوز الصحفي خالد البلشي بمقعد نقيب الصحفيين لفترة ثانية على التوالي، وهو الحدث الذي لا يمكن النظر إليه على أنه مجرد تغيير نقابي تقليدي، ولكنه كان بمثابة الزلزال السياسي والإعلامي المدوي، الذي كشف عن عمق السخط المتراكم لدى الصحفيين بعد أكثر من عقد من القمع المنظم والممنهج.
وما دفع بهذا الحدث إلى دائرة الضوء هو الاهتمام الحكومي الكبير بانتخابات الصحفيين، حيث تم الدفع بمرشح حكومي منافس "عبد المحسن سلامة" وتسليحه بكل أدوات القمع ترغيبًا وترهيبًا، بما جعل الحدث ينتقل من ساحة العمل النقابي التقليدي إلى مشهد سياسي كشف عن إرادة الجمعية العمومية للنقابة للتعبير عن رفضها لممارسات السلطة التي قيدت حرية الصحافة ولاحقت الصحفيين واعتقلت العشرات منهم.
وقد تمثلت الوعود الحكومية للصحفيين من خلال مرشحها في الانتخابات بهدف تجييش جموع الصحفيين لانتخابه في عدد من الاستمالات المالية التي عانى وما زال يعاني منها الصحفيون، ومن ذلك:
- زيادة الدعم المالي للنقابة وزيادة بدل التكنولوجيا للصحفيين.
- تحسين ظروف العمل في المؤسسات الصحفية.
- وعود بإطلاق سراح بعض الصحفيين المعتقلين.
إلا أن هذه الوعود لم تكن مقنعة للصحفيين، الذين يعانون منذ سنوات من حملات اعتقال وتعذيب وإغلاق وسائل الإعلام المستقلة وحجب المواقع الإلكترونية الجادة وتكميم الأفواه، في ظل تدهور الأوضاع الاقتصادية للصحفيين، خاصة في ظل تضخم الأسعار وتآكل الرواتب.
في المقابل، قدم البلشي نفسه كمرشح للإصلاح، مع التركيز على استعادة استقلالية النقابة والتصدي للتدخلات الأمنية، والدفاع عن الصحفيين المعتقلين والمطالبة بإطلاق سراحهم، ومواجهة سياسة الترهيب التي تنتهجها السلطة الحالية ضد الإعلام المستقل، وتحسين أوضاع الصحفيين المعيشية عبر تفعيل دور النقابة في الضغط من أجل حقوقهم المستحقة.
فوز البلشي والرسائل الخفية
والسؤال الذي يطرح نفسه: ما هي الرسائل الخفية من وراء نجاح البلشي وخوض الصحفيين معركة ضد التيار الحكومي الجارف ورفضهم لكل ما ألقي لهم من هبات ومعونات هم بأشد الحاجة إليها؟
الحقيقة أن رصد الواقع يؤكد أن هناك عددًا من هذه الرسائل ومن أبرزها:
- السخط المتراكم، فقد سئم الصحفيون من هيمنة مرشحي السلطة الذين تحولوا إلى مجرد واجهة لتبرير القمع.
- شرعية النضال، فالبلشي كان أحد أبرز المدافعين عن حرية الصحافة، مما منحه مصداقية كبيرة.
- تماسك جيل الشباب، حيث يعاني هذا الجيل الجديد من البطالة والملاحقات، مما دفعهم للتصويت لصالح التغيير.
- فشل إستراتيجية الترهيب والترغيب، حيث لم تعد التهديدات والوعود الزائفة تجدي نفعًا في كبح مطالب الصحفيين.
- الاحتجاج الصامت ضد سياسات النظام القمعية، ورفض التبعية للسلطة والتأكيد على استقلالية النقابة والتضامن مع المعتقلين ورفض سياسة الخوف والتهديد.
من العمل النقابي إلى الفضاء العام
لا شك أن فوز خالد البلشي نقيبًا للصحفيين لن يستطيع أن يغير حقيقة تراجع دور مصر وترتيبها العالمي في حرية الصحافة والتي وصلت إلى المرتبة 166 عالميًا من أصل 180 دولة وفقًا لمؤشر حرية الصحافة للعام 2024م، الصادر عن منظمة "مراسلون بلا حدود".
لكن فوز البلشي سلط الضوء وألقى ظلالًا على الواقع العام، حيث ما زالت مصر تقبع تحت نير عهد انقلابي قمعي واستبدادي منذ 3 يوليو 2013 وحتى يومنا هذا، ونسف كل المكتسبات التي حققتها ثورة يناير وفترة حكم الرئيس محمد مرسي ومكتسباته في مجال حرية الرأي وحرية الصحافة، بما جعله يمثل العصر الذهبي لحرية الصحافة المصرية (2012-2013) عندما شهدت مصر خلال تلك الفترة القصيرة تحولًا جذريًا في المشهد الإعلامي يمكن تلخيصه في النقاط التالية:
- الحرية الإعلامية غير المسبوقة: والتي شملت:
- إلغاء كافة أشكال الرقابة المباشرة على وسائل الإعلام.
- السماح بترخيص أكثر من 30 قناة تلفزيونية جديدة خلال عام واحد فقط.
- ازدهار الصحافة الاستقصائية والمستقلة.
- الحماية القانونية للصحفيين حيث:
- لم تسجل أي حالات اعتقال للصحفيين بسبب آرائهم طوال هذه الفترة.
- تم تقليص ملحوظ في قضايا النشر والمحاكمات السياسية.
- حظيت الصحافة بحرية غير مسبوقة في انتقاد المسؤولين.
- التنوع الإعلامي وتمثل في:
- ظهور منابر إعلامية تمثل كافة التيارات السياسية.
- تعايش الخطاب الإعلامي الإسلامي مع العلماني.
- إتاحة الفرصة لجميع الأصوات للتعبير عن آرائها.
الانقلاب وبداية عصر الظلام الإعلامي
وإذا كان هناك ملامح تم رصدها للعصر الذهبي القصير الذي شهدته الصحافة بعد ثورة يناير وخلال فترة حكم الرئيس محمد مرسي، ففي الوقت ذاته هناك ملامح يمكن رصدها لمرحلة ما بعد الانقلاب العسكري منذ 3 يوليو 2013، تجلت في:
1- في اليوم الأول للانقلاب:
- تم إغلاق 4 قنوات تلفزيونية إسلامية بشكل فوري وعنيف.
- كما تم اعتقال طواقم العاملين في بعض هذه القنوات.
- وتم فرض رقابة عسكرية مباشرة على وسائل الإعلام.
2- في الأشهر الأولى بعد الانقلاب:
- تصاعد وتيرة اعتقال الصحفيين (58 صحفيًا خلال 6 أشهر).
- إغلاق مكاتب قنوات إخبارية دولية.
- تصفية أكثر من 90% من وسائل الإعلام المستقلة.
3- وفي السنوات اللاحقة:
- تم تشريع قوانين قمعية (مكافحة الإرهاب، الجرائم الإلكترونية).
- تحويل الإعلام إلى بوق للسلطة.
- تصفية كافة أشكال المعارضة الإعلامية.
4- استخدم الانقلاب عددًا من أدوات القمع من أبرزها:
- القوانين القمعية: مثل قانون مكافحة الإرهاب (2015) والذي حوّل النقد إلى "جريمة إرهابية"، وقانون الجرائم الإلكترونية (2018) الذي فرض على المخالفين غرامات تصل إلى 10 ملايين جنيه، إضافة إلى قانون تنظيم الصحافة والإعلام والذي وفر سيطرة حكومية كاملة على التراخيص.
- الاعتقالات التعسفية: حيث تم اعتقال عشرات الصحفيين مروا بسجون النظام منذ 2013، وما زال العشرات منهم خلف القضبان.
- قتل متعمد لعدد من الصحفيين: سواء خلال فض رابعة أو ما قبلها وما بعدها، ومن أبرزهم الصحفي أحمد عاصم المصور في صحيفة الحرية والعدالة والذي تم استهدافه في مجزرة الحرس الجمهوري، وحبيبة عبد العزيز الصحفية في جلف نيوز، والصحفي مصعب الشامي المصور في شبكة رصد، وأحمد عبد الجواد الصحفي صحيفة الأخبار الحكومية، ومايك دين المصور الصحفي في شبكة سكاي نيوز، ومحمد سمير الصحفي قناة النيل، وتامر عبد الرؤوف الصحفي بجريدة الأهرام، ومصطفى الدوح مراسل شبكة نبض وميادة أشرف الصحفية في صحيفة الدستور.
- الرقابة الإلكترونية: حيث تم حجب 1200 موقع إخباري، ومراقبة جميع حسابات الصحفيين على وسائل التواصل واختراق هواتف الصحفيين باستخدام برامج تجسس.
5- السيطرة على الإعلام من خلال:
- تحويل الإعلام الرسمي إلى بوق للدعاية الحكومية.
- مصادرة الصحف المستقلة.
- تكميم الأفواه عبر التهديدات الأمنية.
6- ممارسات قمعية حيث يتم قمع الصحفيين من خلال:
- الإخفاء القسري: حيث يتم احتجاز الصحفي في مكان سري لأشهر قبل الاعتراف رسميًّا باعتقاله.
- المحاكمات الهزلية: والتي تجرى في أوقات وجيزة دون ضمانات قانونية، وغالبًا ما تصدر أحكامًا تصل إلى 15 سنة سجن.
- الزنازين الانفرادية: والتي يتم استخدامها لكسر معنويات الصحفيين.
- منع الزيارات والرعاية الطبية لعائلات المعتقلين، وحرمان المرضى من الأدوية.
فوز البلشي.. هل يغير من الواقع؟
والآن يتم طرح هذا السؤال: هل يمكن أن يساهم فوز البلشي في رفع هذه المظالم عن الصحفيين؟ وهل ينجح النقيب المستقل في إحداث تغيير في هذا الواقع؟
الحقيقة أن مثل هذا السؤال يتجاوز الإمكانات، في ظل حالة من الصمت الدولي عن هذه الجرائم، حيث لم تتجاوز الإدانات والتقارير الدولية حول أوضاع الصحافة والصحفيين في ظل الانقلاب حاجز الإدانة الشكلية التي يتم وضعها في تقارير صادرة من الدول الغربية، إلا أن الواقع على الأرض يؤكد أن الدعم المالي والعسكري للانقلاب ما زال مستمرًا، حيث خصصت واشنطن 1.3 مليار دولار سنويًّا كمساعدات عسكرية لمصر (رغم تقارير التعذيب)، في حين وقع الاتحاد الأوروبي صفقات غاز مع مصر بقيمة 7 مليارات يورو (2023) دون التقيد بمسألة حقوق الإنسان.
ومع هذا، فهناك هامش حركة يمكن أن يسهم في حلحلة الواقع بعد فوز البلشي، ومن مفرداته:
- توسيع دائرة الرفض داخل المجتمع الصحفي الذي تمكن هذه المرة من تحدي السلطة وفرض قراره.
- محاولة الضغط للإفراج عن بعض الصحفيين، رغم ما يواجهه ذلك من حرب إعلامية وأمنية.
- تفعيل الضغط الدولي على سلطة الانقلاب.
الخلاصة:
مصر لم تعد سجنًا للصحفيين فحسب، بل أصبحت مقبرة لحرية التعبير، وفوز البلشي يعد خطوة إيجابية، لكنها لن توقف آلة القمع دون تحرك جذري، فالعالم يعرف الحقائق، لكن السياسة أهم من الدماء المصرية.
السؤال الآن: هل سيمرر الانقلاب تلك الصفعة التي أطلقتها الجمعية العمومية للصحفيين في تحد واضح لسياساته تجاه الصحفيين؟ أم سيسارع إلى تفريغ هذا الفوز من مضمونه من خلال مجموعة من الممارسات القمعية الانتقامية؟!
بصرف النظر عما سيفعله وسيرد به فإن ما حدث يؤكد أن الصحفيين المصريين ما زالوا قادرين على قول "لا"، حتى في أحلك الظروف!