إسماعيل القريتلي: الواقع الإعلامي الليبي مؤسف للغاية

السبت - 10 مايو 2025

  • الرسائل الإعلامية تتسم بالتحريض وتعتمد على معلومات مضللة وانحيازات واضحة
  • الانتهاكات مستمرة في جميع القنوات والمنصات التي تتناول الشأن السياسي والعام
  • الخيارات أمام الإعلام إما الانحياز أو الإغلاق.. وبالنسبة لنا: نصف الحقيقة هو نوع من الكذب
  • أهم التزام للصحفي هو حماية وعي الناس.. وأنصح جميع الزملاء بألّا يتنازلوا أمام أي ضغط

 

إنسان للإعلام- خاص:

في حوار خاص مع "إنسان للإعلام"، قدم إسماعيل القريتلي، الكاتب الصحفي والخبير الإعلامي الليبي، قراءة ناقدة للمشهد الإعلامي الليبي الراهن، مشيرًا إلى افتقاره للانضباط الأخلاقي والمهني، وميوله نحو الاستقطاب وتأجيج النزاعات. ولفت "القريتلي" إلى أن المؤسسات الإعلامية الليبية بمعظمها مملوكة لأطراف متنازعة، تعكس كل منها وجهة نظر مموليها، حتى بلغ الأمر حد ازدراء الآخر.

ورغم هذه التحديات، يرى "القريتلي" أن هناك بارقة أمل في المبادرات الشبابية التي تعتمد على الإعلام الجديد، مثل إنتاج البودكاست وخلق مساحات للحوار على منصات التواصل الاجتماعي.

وأكد "القريتلي" أن جوهر رسالة الصحفي يظل حماية وعي الجمهور، داعيًا الصحفيين والصحفيات إلى التمسك بهذا المبدأ رغم ما يواجهونه من صعوبات.

وفي السطور التالية، نص الحوار كاملًا::

  • كيف تقيّم المشهد  الإعلامي في ليبيا بعد أكثر من عقد على الثورة؟

الحقيقة أن الواقع الإعلامي في ليبيا مؤسف للغاية، فهو يفتقر إلى الانضباط على المستوى الأخلاقي والمهني، كما أنه متورط في مختلف الصراعات الداخلية التي تعيشها ليبيا منذ عام 2011، سواء بعد الثورة أو حتى إبانها.

حتى الإعلام المحسوب على الثورة أو على النظام السابق، كلاهما تورط في تأجيج النزاع، ولم يكن هناك إعلام يقدّم معلومات موضوعية حول القضايا المثيرة للجدل. ومع سقوط النظام، بدأت الانقسامات مبكرًا لأن الإعلام كان مملوكًا للقوى المختلفة في ليبيا. معظم هذه القوى الكبرى امتلكت وسائل إعلام، سواء كانت قنوات تلفزيونية، أو إذاعات مسموعة، أو منصات على وسائل التواصل الاجتماعي.

  • وأين كان الإعلام الرسمي أو المملوك للدولة في تلك الفترة؟

الإعلام الحكومي أو الرسمي تعرض للإغلاق لفترة طويلة، ولم يكن هناك إعلام رسمي قادر على خلق حالة من التوازن أمام هذا الاصطفاف والانقسام الذي هيمن على المشهد الإعلامي، واستمر هذا الانقسام حتى اللحظة الحالية، وللأسف لم نتمكن من الوصول إلى النتيجة المرجوة.

  • هل حدثت محاولات لتغيير واقع الإعلام الحكومي أو تطويره؟

بالتأكيد، لقد كانت لي محاولة شخصية للعمل على تطوير الإعلام الرسمي، حيث أتيحت لي فرصة التعاقد مع الحكومة في طرابلس لتحقيق هذا الهدف، لكن الإعلام الرسمي لم يستطع في الواقع منافسة الإعلام الخاص المدعوم من دول خارجية، أو المحسوب على مختلف الأطراف الفاعلة في ليبيا، سواء كانت سياسية، عسكرية، أيديولوجية، أو حتى بعض المجموعات المسلحة الكبرى.

  • هل يمكن القول إن الإعلام الليبي ما زال أسير التجاذبات السياسية؟

لا شك أن المشهد الإعلامي في ليبيا ما زال غير صحي، إذ تتسم الرسائل الإعلامية بالتحريض، وتعتمد على معلومات مضللة وانحيازات واضحة.

 هذا الوضع يمنع الكثير من المؤسسات الإعلامية من تناول القضايا بموضوعية، حتى عندما يتعلق الأمر بالقضايا المجتمعية العامة أو انتهاكات حقوق الإنسان، وكل وسيلة إعلامية تختار ما يخدم الطرف الذي تعبر عنه، مما يكرس الانقسام.

  • ألا توجد مؤسسات مجتمع مدني أو نقابات تعمل على إصلاح هذا المشهد؟

هناك بالفعل بعض المراكز والجهات المدنية في ليبيا التي تعنى بإصدار تقارير ترصد الانتهاكات الإعلامية المتعلقة بأخلاقيات المهنة، ولكن للأسف، هذه الانتهاكات مستمرة في جميع القنوات، والمنصات، والإذاعات التي تتناول الشأن السياسي والشأن العام.

 هذا الوضع يجعل المشهد الإعلامي غير صحي، ولا يساعد في بناء وعي جمعي يمكن الناس من الحكم على السياسيين، أو القوى الفاعلة المختلفة في ليبيا، أو حتى القضايا المطروحة التي تؤرقهم في المجالات الاقتصادية والأمنية والسياسية والاجتماعية.

  • برأيك، هل مر الإعلام الليبي بتحولات كبيرة في أي فترة من الفترات، سواء إيجابًا أو سلبًا؟

نعم، قبل ثورة فبراير، كانت جميع القنوات التلفزيونية مملوكة للدولة، ولم تكن هناك سوى قناة حكومية واحدة، إلى جانب بعض القنوات المتخصصة، مثل القنوات الدينية والتعليمية.

 وفي عام 2006، أطلق سيف الإسلام القذافي قناة "الليبية"، التي أحدثت نوعًا من التغيير في تناول المواضيع، ووفرت مساحة محدودة للتعبير، لكن هذه التجربة لم تدم طويلًا؛ بسبب خلافات بين جيلين داخل النظام، فتم إغلاق قناة "الليبية" أو تأميمها، وأعيد تسميتها "الجماهيرية 2" إلى جانب القناة الرسمية الأولى، وأصبحت تعكس النهج الحكومي ذاته.

إلى جانب ذلك، ظهرت بعض الصحف التي جمعت بين النسخ الورقية والإلكترونية، وكانت هناك صحيفتان تتبعان شركة "الغد" التي يملكها سيف الإسلام.

حاولت هذه الصحف توفير مساحة غير معتادة من الحرية للقراء الليبيين، لكنها تعرضت للتضييق ولم تستمر حتى عام 2011، ومع سقوط النظام، انتهت هذه التجارب ولم يتم الحفاظ على مساحات التعبير التي بدأت تظهر فيها.

  • هل كانت هناك تجربة لصحف معارضة؟

 بالطبع، كانت هناك واجهات إعلامية للمعارضة الليبية في الخارج، وخاصة على منصات التواصل الاجتماعي، حيث ركزت تلك المنصات بشكل أساسي على الجوانب السلبية للنظام القائم آنذاك.

 لكن لم تظهر تجارب حقيقية لإعلام مستقل وموضوعي، باستثناء بعض المحاولات البسيطة التي لم تنجح في الواقع، إما بسبب ضعف الإمكانات أو بسبب تغيير سياساتها نتيجة ضغوط الممولين أو المالكين.

  • وكيف كان الواقع الإعلامي بعد فبراير 2011؟

بعد فبراير 2011، توقف الإعلام الحكومي بشكل شبه كامل، وحدث انفجار في عدد المؤسسات الإعلامية، حيث ظهرت عشرات الإذاعات المسموعة، وأكثر من عشر قنوات تلفزيونية، بعد أن كانت ليبيا تمتلك قناة واحدة فقط.

كانت هذه القنوات موزعة بين الداخل والخارج، حيث بُثّ بعضها من مصر، والأردن، وقطر، وتركيا، إلى جانب القنوات التي ظهرت من داخل ليبيا نفسها.

لكن السمة العامة لهذه القنوات أنها كانت تتبع رؤى سياسية محددة، وكل منها يعكس أجندة الطرف الذي يموله.

هذا الواقع جعلها تنخرط في تشويه الخصوم، وتعزيز خطاب الكراهية، ليس فقط على المستوى السياسي، بل امتد الأمر إلى الكراهية المجتمعية، حيث وصل الخطاب إلى وصف قبائل ومدن كاملة بمصطلحات تحمل الكثير من الازدراء والتخلف، وهو أمر مؤسف للغاية.

  • كانت لكم تجربة في هذا الأمر، هل يمكن أن تحدثنا عنها؟

نعم، كانت لنا تجربة من خلال مؤسسة "العين" التي أطلقت "راديو أجواء"، حاولنا في هذه التجربة أن ننحاز إلى المهنية، وقدمنا جميع الآراء دون تمييز، حتى أن شعارنا كان "كل الآراء"، وليس فقط "الرأي والرأي الآخر".

لكننا تعرضنا للتضييق والاضطهاد، وبلغ الأمر حد اقتحام مقر الراديو، مما دفعنا في النهاية إلى اتخاذ قرار بإغلاقه، ثم إغلاق الموقع الإلكتروني أيضًا.

 كان القرار صعبًا، لكنه كان الخيار الوحيد المتاح، لأن الخيارات أمام الإعلام في ليبيا كانت إما الانحياز أو الإغلاق، وبالنسبة لنا، نصف الحقيقة هو نوع من الكذب، ولا يمكن أن نكون جزءًا من ذلك.

  • ما تقييمكم لتجربة تدريب الصحفيين وبناء القدرات الإعلامية التي حاولت تغيير هذا الواقع بعد 2011؟

تجربة ما بعد 2011 أظهرت جيلًا جديدًا من الصحفيين الليبيين، وتعرَّفَت عليهم حتى بعض المؤسسات الإعلامية العربية الكبرى، التي احتضنت عددًا منهم.

 تدريب الصحفيين في ليبيا لا يزال مستمرًا، لكن المشكلة الكبرى تكمن في الظروف المعيشية الصعبة، فالصحفي الليبي غالبًا ما يواجه صعوبة في الاشتراك في برامج تدريبية، وقد لا يتمكن من تحمل تكاليف المشاركة في أكثر من برنامج واحد سنويًا، وأحيانًا حتى برنامج واحد يصبح عبئًا عليه.

  • هل ترون أن هناك تغييرًا في قناعات هؤلاء الصحفيين بعد التدريب، من حيث التعامل بمهنية وموضوعية أكبر؟

المشكلة في الحقيقة ليست في قناعات الصحفيين أنفسهم، بل في المؤسسات التي يعملون بها، والضغوط التي تواجههم، فكثير من الزملاء يشعرون بالإحباط بسبب الاستقطاب والانحياز السائد، لدرجة أن بعضهم يقرر الاستقالة لشعوره بالعجز عن ممارسة المهنة بشكل مهني وموضوعي.

  • هل نجح الإعلام الجديد في إحداث خروقات وخلق منصات أكثر حيادية واستقلالية؟

بالطبع، مع اتساع انتشار البودكاست، ظهرت مجموعة من البرامج الجيدة التي ينتجها شباب ليبيون، حتى لو لم تكن لديهم خلفية إعلامية.

 هذه البرامج تناولت قضايا متنوعة، منها ما هو تاريخي، مثل حوارات مع شخصيات عاشت في ثلاث مراحل مختلفة: الملكية، الجمهورية، والثورة.

وهذا التنوع في المواضيع يعكس وعيًا متزايدًا بين الشباب بأهمية تقديم محتوى مستقل وذي جودة.

  • برأيك، هل يمكن لهذا النوع الجديد أن يسد الفراغ الذي تركه الإعلام التقليدي؟

في الحقيقة، هذا التنوع مبشر ويمكن أن يقدم بديلاً جيدًا، خاصة وأن الأجيال الجديدة، دون سن الثلاثين، لا يعرفون التلفزيون والمنصات الإعلامية التقليدية.

ما يبشر أكثر هو أن عددًا من الشباب الليبيين نظموا مؤتمرًا خاصًا بالبودكاست، في خطوة تعكس رغبتهم في الاستقلال وتنظيم أنفسهم في إطار نقابي أو مؤسساتي.

  • ما الرسالة التي ترغب في توجيهها للصحفيين الليبيين في ظل هذه الأوضاع الصعبة والاستقطابات؟

أعتقد أن أهم التزام أمام الصحفي هو حماية وعي الناس، وأنصح جميع الزملاء من الصحفيين والصحفيات، والإعلاميين والإعلاميات، بألّا يتنازلوا قيد أنملة أمام أي ضغط، أو محاولة ابتزاز، أو ترهيب، أو إغراء من أي جهة تسعى لتشويه وعي الناس عبر الإعلام والصحافة.

ينبغي أن نرفض أن نكون أدوات للتضليل، ونتحمل نتائج هذا الموقف حتى لو اضطررنا إلى تغيير مهنتنا، لكن أن نبقى في هذه المهنة ونتورط في تشويه وعي الناس، فهذا أخطر ما يمكن أن يحدث.

وأعتقد أن أخطر ما قد تصير إليه الصحافة هو أن تتحول إلى بروباغندا أو دعاية سوداء لصالح مجموعة ضغط، سواء كانت اقتصادية، مالية، سياسية، أمنية، اجتماعية، أو حتى دينية.

على الزملاء أن يدركوا تمامًا هذه المسؤولية الملقاة على عاتقهم، وأن يدافعوا عنها، وعندما يجدون أنفسهم عاجزين عن ممارسة الصحافة بأخلاقياتها، فمن الأفضل أن يتراجعوا خطوة للخلف بدلًا من أن يشاركوا في التضليل.