انقلاب ما بعد الانقلاب.. ماذا حدث للإعلام المصري تحت حكم العسكر؟
الجمعة - 6 ديسمبر 2024
الخبير الإعلامي "حازم غراب" في أول حوار بعد إغلاق فضائية "مصر 25":
- ما حدث للإعلام بعد انقلاب 2013 هو "عودة للأصل" السلطوي السائد منذ 1952
- إغلاق قناة "مصر 25" بالاعتقالات المفاجئة للإعلاميين والضيوف كان لحظة مؤسفة
- انتشار الإعلام الجديد عبر سائل التواصل الاجتماعي قطع الطريق على الإعلام المدلس
- الاهتمام بالعمل الإعلامي فرض عين وواجب في حق المهتمين بالدعوة وأصحاب الرسالة
إنسان للإعلام- حوار خاص:
أكد حازم غراب، الخبير الإعلامي ومدير فضائية مصر 25 سابقا، أن الإعلام في مصر لم يكن يتمتع بالحرية منذ منتصف خمسينات القرن الماضي، ويدار من قبل الرقيب في السلطة.
وقال في حوار خاص لــ "موقع إنسان للدراسات الإعلامية": إن ما حدث من إغلاق القنوات التلفزيونية وحجب المواقع الصحفية ومصادرة الحريات، مع انقلاب 3 يوليو 2013، بمثابة العودة إلى الأصل.
وتابع: "رغم أن فضائية مصر 25 كانت تمارس الإعلام بمهنية تامة إلا أن سلطة الانقلاب تعاملت معها بشكل مؤسف حتى أنه تم اعتقال بعض الضيوف بالإضافة إلى بعض العاملين في القناة في ذلك الوقت".
وأوضح أن انتشار الإعلام الجديد عبر سائل التواصل الاجتماعي قطع الطريق على الإعلام الكاذب المدلس، مؤكدا ضرورة الاهتمام بالعمل الإعلامي كـ"فرض عين وواجب في حق المهتمين بالدعوة وأصحاب الرسالة"، حسب قوله. وإلى نص الحوار:
- لو عدنا إلى الوراء.. ماذا حدث لقناة مصر 25 لحظة الانقلاب؟
الحقيقة كانت لحظة مؤسفة، خاصة أن الانقلاب لم يقتصر على الصحفيين والإعلاميين بالقناة لكن أيضا على بعض الضيوف الموجودين أثناء انتظارهم لتقديمهم في نشرة الأخبار قبيل الإغلاق، ومنهم من اعتقلوا سويعات قبل خروجهم، وبعضهم ربما لا يزال قيد الاعتقال.
- هل هذا الموقف ضد "مصر 25" كان بسبب أنها محسوبة على الإخوان؟
بهذا الخصوص كان لي مقابلة قبل كارثة الانقلاب بينت فيها موقفنا، وأننا محطة إعلامية تعمل بمهنية وتستضيف كل الأفكار ونتعامل بمهنية تامة. والفضل لله، أننى تعلمت المهنية على أصولها من الممارسة ومن الشبكات التي التحقت بها، بداية من اليابان واليابانيين إلى شبكة الجزيرة، إلى الخبرة العملية، حتى في السوشيال ميديا.
وأحب أن أنوه إلى أن المهنية بخلاف الحيادية، يعني أنا دائما أضرب المثل في الفرق بينهما، فمثلا مراسلو الجزيرة في فلسطين يمارسون المهنية بأعلى درجاتها، لكن حديثهم يتعلق بالقضية، لأن وطنهم محتل، وعدوهم يقهرهم، ومع ذلك لا تسمع منهم مخالفه للقواعد المهنية.
ولما تسلمت قناة "مصر 25 " كنت متنبها 100% إلى هذه القضية وأن نكون مهنيين إلى أقصى درجة، حتى لو كان على حساب ممولي أو أصحاب القناة، وأكدت لمن زارونا من المراسلين والإعلاميين الأجانب أن هذه قناة ليست ملك أحد في الوقت الحاضر آنذاك، وفي المدى المتوسط، لأنى كنت مُصرا، كمهني، أن تكون ملكيتها على الشيوع بمعنى أسهم، ولا ينفرد أحد بعدد كبير من الأسهم بحيث يسيطر على السياسة التحريرية.
وقد واصلنا العمل بهذه المهنية وفقا للسياسة التحريرية ، وكانت هذه تجربتي وتجربة الزملاء، وهو ما دعا أحد زملائنا في الجزيرة "لا داعي لذكر اسمه" إلى أن يمدح قناة "مصر 25"، وقال لي: إن لكم مراسلون الآن، ينافسون مراسلي الجزيرة من حيث الانتشار والمهنية، وكان لنا مراسلون في معظم محافظات مصر.
- هل مورست على القناة سياسات معينة من مموليها أو كانت هناك أمور محظورة؟
حدثت محاولة طفيفة، بطلب ممن كانوا يمتلكون أسهما أكبر ، لاستضافة أشخاص بعينهم أو التأثير على السياسة التحريرية بشكل ما، لكني قلت بملء الفم: "هذا ليس من حقك"، وقبل ذلك كنت قد استبعدت، حين التوقيع على العقد، عددا من البنود وتمسكت بمبدأ فصل رأس المال عن السياسة التحريرية، وأن المالك ليس من حقه التدخل في السياسة التحريرية بأي حال.
- هل هذا طبيعي أن ترفض تدخل الممولين في سياسة القناة؟
صحيح، معظم وسائل الإعلام تتحكم فيها رؤوس الأموال، إلا الشبكات التي تعمل بنظام الأسهم، ومثال ذلك محطة NHK التلفزيونية في اليابان، المملوكة للشعب، وأيضا محطة "بي بي سي" التي يملكها الشعب البريطاني وتستقطع ميزانيتها من رواتب المواطنين مع الضرائب، و ما عدا ذلك لم تسلم الكثير من الوسائل الكبيرة من الكذب والتدليس.
لكن في "مصر 25" كانت الصراحة والصرامة من البداية في هذا الأمر ، حتى أن بعضهم لم يكن يعلم أن المهنية وصلت إلى هذا الحد مع العبد لله.
- قلت إن الكذب والتدليس أصاب مؤسسات كبيرة لصالح الممولين.. لو تعطي لنا أمثلة؟
كنا نظن أن ما يقال عنها مؤسسات راسخة ومستقلة لا يصيبها التدليس، حتى ضبطناهم متلبسين بالكذب، ففي الغزو الأمريكي للعراق بثت وكالة "رويترز" خبرا كاذبا لصالح الغزو الأمريكي، فأعلنت سقوط بلدتين عراقيتين على حدود العراق والكويت هما الناصرة وأم قصر، ولم تكونا قد سقطتا، وكنت حينها أعمل في الجزيرة، ولولا أن الجزيرة تتسم بالمهنية ولدينا زملاء أكفاء، لكانت مرت علينا هذه الأخبار المزيفة.
- كيف تحققتم في حينه من واقعة الكذب؟
قررت الجزيرة، في ذلك الوقت، أن ترسل مراسلنا في البصرة، وهو أقرب ما يكون إلى البلدتين العراقيتين، ومعه جهاز البث المباشر، فذهب إليهما ونقل إلينا من هناك أن المدينتين لم تسقطا، فضبطت "رويترز" و "أسوشيتد برس" متلبستين بالتزوير، وبالكذب البواح.
- برأيك ..كيف هي تداعيات الانقلاب على الإعلام وحريته؟
في الواقع ما حدث من تكميم الأفواه والتضييق على الإعلام بعد الانقلاب هو عودة إلى الأصل، بمعنى أن الإعلام في مصر لم يكن حرا بأي درجة من الدرجات، لأنه من بعد انقلاب 52 المسمى "ثورة يوليو" أُممت الصحف وعينوا أناسا باختيارهم لرئاسة تحريرها، كانوا يتلقون التعليمات بما ينشر وما لاينشر، وحدث الشئ نفسه في الإذاعة.
وحتى عندما أسس "الضباط الأحرار" ،الذين قادوا الانقلاب، جريدة "الجمهورية" عينوا أنور السادات، وهو واحد منهم، رئيسا لتحريرها.
وبالنسبة لماسبيرو (مبنى الإذاعة والتليفزيون الرسمي)، أنا لست شاهدا على هذه التعليمات فحسب، عندما كنت أعمل هناك، بل كنت أحد الذين يبلغونها نقلا عن رئيس الجمهورية نفسه، بلا أدنى مبالغة، إما هو شخصيا أو مدراء مكتبه، والأجهزة المسماة السيادية وخلافه.
فإغلاق وسائل الإعلام، أو توجيهها بعد الانقلاب، كان عودة إلى الأصل أو استئناف لأصل التضليل والتدليس الحكومي على عقول الشعب، وبفضل الله سبحانه وتعالى أصبح هناك حلول للوقاية من هذا التدليس وهذا الكذب وهذا التشكيك.
- يعني ما حدث بعد ثورة 25 يناير كان بمثابة متغير جديد قبل الانقلاب عليه؟
بالتأكيد أن ما جاء بعد ثورة 25 يناير كان شعاع نور وحرية، ثم جاء انقلاب 3 يوليو 2013 فأطفأه، "لتعود ريما لعادتها القديمة"، ولم تتحمل السلطة المنقلبة مجرد شعاع حرية، فأغلقت القنوات وحجبت المواقع، ثم أنشأوا قنوات خصيصا للتدليس والكذب و"شيطنة" الآخر.
- وكيف يمكن مواجهة هذا الواقع الإعلامي الانقلابي؟
لحسن الحظ أن انتشار وسائل التواصل الاجتماعي قطع الطريق تماما على هذا الإعلام المدلس، وقد أكد لي هذا المعنى الزميل الأميركي "داني شختر" فقال إن "السوشيال ميديا" منعت بظهورها تماما إعلام الستينيات في مصر وأمثاله وأشكاله، لأن السلطة كانت متحكمة في المادة التي تذاع أو تنشر، أما الآن فأنت تستطيع أن تقول ما تشاء، في أي وقت، بكل حرية، ولا تستأذن، اللهم إلا استثناءات بسيطة، لكن لا تقارن بالمرة بما كان سابقا .
- ما هي – من وجهة نظرك- أهم نقاط القوة في إعلام المعارضة بالخارج؟
قبل الحديث عن الإعلام المعارض، هناك حقيقة تضاف إلى ما قلته، وهي قضية نسبة المشاهدة بالنسبة للفضائيات، وهي من ضمن القرائن القوية جدا على فشل إعلام التضليل والتدليس والكذب وغسل الأدمغة، وهو ما جعل السلطة في مصر تغلق شركة قياس الرأي العام أو قياس نسبة المشاهدة؛ حتى لا تظهر النسب الحقيقية لمشاهدات قنوات المعارضة التي تفوق بالتأكيد مشاهدات إعلام السلطة.
- وهل هذه الشركات تعطي نسبا يعتد بها ويعتمد عليها؟
بالتأكيد، وفي إحدى زياراتي لليابان، قبل أكثر من عشر سنين، كنت أدخل القنوات والشبكات هناك فأجد في المدخل مقياسا لنسب المشاهدة، ساعة بساعة، مثلا: تظهر مشاهدات لإحدى القنوان بنسبة 10% والأخرى 50%، والثالثة 30%، والرابعة 90%، و هكذا، وهذه عملية مهمة جدا، حتى يبقى العاملون أو الصحفيون في حالة انتباه ويقظة، ويعرفون أين هم من الرأي العام.
وبالعودة لسؤال إعلام المعارضة، فهو لديه مغريات شديدة، وكما يقال "الممنوع مرغوب"، هذا من حيث المنطق ومن حيث التقاليد وعادات الناس.
وبعد أن اختفى الإعلام المعارض من الداخل لم يجد الناس أمامهم إلا قنوات الخارج، فأقبلوا عليها بنهم شديد، وهذا برأيي من أهم نقاط القوة .
يقول الأكاديميون المختصون: إن كل إنسان يذهب إلى الإعلام الذي يعكس تطلعاته أو رغباته أو مصالحه أو مواقفه، وفي ظل سياسات السلطة الفاسدة والأوضاع السيئة وارتفاع الأسعار وتردي المعيشة والتفريط في الثوابت، حتى عل مستوى الأمن القومي، أجزم أنه لايتابع إعلام السلطة إلى فئة قليلة من المنتفعين ومن يدورون في فلك السلطة .
- لماذا تعتقد أن إعلام المعارضة أكثر مشاهدة؟
أزعم أنه لو قيست نسب المشاهدة بمقاييس علمية لن تكون هناك مقارنة بين إعلام المعارضة، وقنوات التدليس والكذب في مصر، فالمصريون يعتبرون أن إعلام المعارضة هو ما يعبر عنهم .
- ما هي التحديات أمام إعلام المعارضة من وجهة نظرك؟
الإعلام صناعة ثقيلة، تحتاج تمويلا كبيرا جدا، وتحتاج مهنيين وتقنيين متخصصين، وهذا الأمر ليس متاحا للإعلام المعارض بشكل كبير، لأنه لو كان في الداخل لكان من السهل إنشاء شركات مساهمة أو استجلاب إعلانات، لكن حاليا نقطة ضعف إعلام المعارضة هو احتياج تقنياته إلى مدد أو تمويل جيد يتيح له جودة أعلى في الشكل والمضمون.
- كيف يمكن حل أزمة التمويل وإنشاء مؤسسات لصناعة إعلام جيد؟
الأمر ليس ابتداعا، والمسلمون ابتكروا ما يعرف بـ"الوقف الخيري" لتمويل مشروعات نفع عام للمسلمين وغيرهم، وكانت هناك تجربة عملية في قضية موقع "إسلام أون لاين" وفي المؤسسات غير الإعلامية التي كان للوقف الخيري إسهامات عظيمة فيها، مثل مشاريع لمؤسسات تعليمية وعلاجية وغيرها، مثلا: مستشفى العجوزة هو وقف من أموال المسلمين لوجه الله. فالوقف عموما رافد مهم اعتمده المسلمون عبر التاريخ لتمويل المؤسسات التي لا تستطيع أن تربح بسهولة.
وهناك الاكتتاب أو المشاركة من المواطنين، باعتبارهم المستفيد من الخدمة، وهناك تجارب منها "بي بي سي"، وفي اليابان تمويل الوسائل الإعلامية لا يأتي من جيوب الأغنياء. ولا من ميزانية الدولة، لكنه يعتمد على المواطنين، حيث يستقطع كل مواطن من راتبه مبلغا لحساب تمويل تلك المحطات.
- كيف تنظر إلى أهمية الإعلام الجديد؟
الإعلام الجديد، أو وسائل التواصل الاجتماعي، أصبحت أداة مهمة يمكن من خلالها النفاذ إلى الآخر، سواء القريب أو البعيد، وهو أداة مهمة لكل صاحب رسالة يريد تبليغها ونشرها للناس وأتاحت الفرصة لكل صاحب دعوة أن يكون "إعلاميا" من خلال إنشاء صفحة أو حساب على هذه المنصات.
- وكيف على المستوى المؤسسي؟
إن كان هذا واجب في حق الفرد، فهو أوجب في حق المؤسسات القائمة على الدعوة؛ انطلاقا من قاعدة "مالا يتم الواجب إلا به فهو واجب"، فالاهتمام بالإعلام عموما بجميع أشكاله ووسائله والإعلام الاجتماعي واجب وفرض، وهو تكليف على أصحاب الدعوة، إذ من خلاله تتحقق مهمة البلاغ عن الله ورسوله، وهو وأمر لا يحتمل الاعتذار أو التأجيل.
- على المستوى الشخصي.. لماذا انت بعيد عن الساحة الإعلامية منذ الانقلاب؟
أزعم أني لست بعيدا، وأمارس الحد الأدنى، وهو المتاح في ظل البيئة والظروف والمتغيرات غير المواتية إقليميا ومحليا ولا دوليا، فأنا أدوّن وأكتب ما أراه مفيدا عبر منصات التواصل من باب "زكاة الخبرة" التي منحنا الله إياها.
أما إن كنت تقصد العمل مع فريق ضمن عمل مؤسسي، فالظروف تحول حاليا، وربما لو تغيرت لاختلف الأمر. أضف إلى ذلك ما عرفته من اليابانيين بأنه "لا يوجد مدير بعد سن الأربعين"، وممكن الاستعانة بمن فوق الأربعين كمستشارين ومدربين وهكذا، حتى يُفسح المجال للطاقات الشابة القادرة على العطاء والإبداع في إدارة المؤسسات والنهوض بها، ومن ثم تقديم أفضل شىء فيما ينفع الناس، وأنا لا أفضل العمل كمسئول، وإذا طُلبت استشارتي فلن أتأخر أبدا.
- أخيرا .. ما هي نصيحتك للعاملين في الإعلام؟
أنصح العاملين في هذا المجال بإدراك مهمة "البلاغ والتبليغ"، فيستحضروا النية كلما خرجوا لعملهم، وأنهم يؤدون رسالة، وهذه الرسالة رسالة أصلها عقيدي، حتى وإن كنا نرتزق منها. ومن المهم-مع ذلك- تحري الصدق والأمانة والدقة، والحرص على أن يكونوا على أعلى مستوى من الكفاءة.