خطابا "الصَّهْيَنَة" و"الفَلَسْطَنَة".. والتحول في الرأي العام الغربي

الجمعة - 6 سبتمبر 2024

أضحى خطاب الصهيونية والتأييد السياسي الغربي له في منطقة الانحباس السياسي والثقافي والإعلامي

لا تستطيع "إسرائيل" أو مناصروها الغربيون إيجاد لمسة سحرية لكي يظل الجمهور مقتنعا بخطابهم

 

تلخيص- إنسان للإعلام:

ركزت دراسة للباحث محمد الشرقاوي، "أستاذ تسوية الصراعات الدولية بجامعة جورج ميسن"، نشرها مركز الجزيرة للدراسات،  على قياس مدى التحوُّل في الخطاب السياسي وتمثُّلات الرأي العام في الدول الغربية، وسط التنافس بين خطاب الصهيونية وتأييد إسرائيل من ناحية، وخطاب الحقوق الفلسطينية من ناحية أخرى  خلال الأيام السبعين الأولى من الحرب الإسرائيلية على غزة، في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023.

 وتنطلق الدراسة من فرضية أن الخطاب الصهيوني داخل إسرائيل وخارجها يستنفد، على ما يبدو، طاقة الدفع إلى الأمام، سواء من حيث القدرة على بلورة خطاب ذاتي لاستدامة الاحتلال وتجاوز مجموعة مع العثرات التي وقعت فيها حكومة يمينية متطرفة بقيادة رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، أو قدرة الأوساط السياسية والإعلامية الموالية لها في الغرب على حشد دعم سياسي ومعنوي مستدام في هذه المرحلة.

تبدل المواقف

أظهرت الأيام السبعون الأولى من الحرب التي شنَّتها إسرائيل على غزة2023، مفارقتيْن متتاليتين في تطور المواقف الجماهيرية خلال المظاهرات وتصريحات النخب السياسية في الدول الغربية، وأسهمتا في حدوث تحوُّل نسقي في الرأي العام الغربي بين تراجع خطاب الصَّهْيَنَة وتقدُّم خطاب الحقوق الفلسطينية وضرورة التوصل إلى حلٍّ سياسي لإنهاء احتلال فلسطين.

انطوت المفارقة الأولى على توجيه الحكومات الغربية في أميركا الشمالية وأوروبا دعمًا مطلقًا لإسرائيل بعد هجوم كتائب القسام، الجناح العسكري لحركة حماس، على المستوطنات الإسرائيلية في غلاف قطاع غزة، في السابع من أكتوبر/تشرين الأول. لكن استهداف إسرائيل لمستشفى المعمداني بغزة، في 17 أكتوبر/تشرين الأول، وقصف المدنيين الذين لجؤوا إليه، حرَّك مئات الآلاف من المحتجين الذين خرجوا في آلاف المظاهرات حول العالم. فتقلصت نسبة المظاهرات المؤيدة لإسرائيل من 31% خلال الأسبوع الأول من الحرب إلى 5% بينما ارتفعت نسبة المظاهرات المؤيدة للفلسطينيين من 69% إلى 95% منذ 13 أكتوبر/تشرين الأول، وفق دراسة مسحية أجراها المعهد الإسرائيلي لأبحاث الأمن القومي.

أما المفارقة الثانية فكانت، في 12 ديسمبر/كانون الأول 2023، بين مقر الأمم المتحدة في نيويورك والبيت الأبيض في واشنطن عندما تبنَّت الجمعية العامة للأمم المتحدة بأغلبية ساحقة قرارًا، غير ملزم، يدعو إلى وقف فوري لإطلاق النار لأسباب إنسانية في غزة. وصوَّتت 153 دولة لصالح القرار مقابل معارضة 10 دول للقرار. فوجدت الولايات المتحدة وإسرائيل نفسيهما معزولتين على نحو متزايد، وانضمت إليهما أقلية صغيرة من الدول: النمسا، وجمهورية التشيك، وغواتيمالا، وليبيريا، وميكرونيزيا، وناورو، وبابوا غينيا الجديدة، وباراغواي.

ومن التحولات المثيرة أن أغلبية دول الاتحاد الأوروبي، 17 دولة من أصل 27، أيَّدت قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك الذي يدعو إلى "وقف فوري لإطلاق النار لأسباب إنسانية" إذا أخذنا هذا التصويت في سياق المقارنة مع ثماني دول من الاتحاد الأوروبي مؤيدة، وأربع معارضة، وامتناع 15 دولة عن التصويت عندما صوتت الجمعية العامة للأمم المتحدة على قرار مماثل لوقف إطلاق النار في 27 أكتوبر/تشرين الأول.

مهَّد هذا التصويت في الأمم المتحدة لموقف نقدي غير مرتقب من قبل الرئيس الأميركي، جو  بايدن، لحكومة نتنياهو وسير إستراتيجيتها في الحرب على غزة؛ فقال: "لست متأكدًا من أن بن غفير ومجلس وزراء الحرب (في إسرائيل) يمكن أن يعتمدوا على الولايات المتحدة في أمن إسرائيل... لقد بدؤوا يفقدون الدعم بسبب القصف العشوائي الذي يحدث" في غزة. وأشار إلى "تصاعد معاداة السامية هنا في أميركا وفي جميع أنحاء العالم" ضد الإسرائيليين واليهود. ومن النقاط النقدية التي ذكرها بايدن "يتعين على نتنياهو تغيير الحكومة الإسرائيلية لإيجاد حلٍّ طويل الأمد للصراع الفلسطيني- الإسرائيلي... الحكومة الحالية أكثر الحكومات تطرفًا في تاريخ إسرائيل وهي لا تريد حلَّ الدولتين... لا يمكنك القول: لا توجد دولة فلسطينية على الإطلاق في المستقبل... هذا أمر صعب".

في ضوء هذا التغيُّر غير المسبوق في اتجاهات الرأي العام وموجة الانتقادات الرسمية المتزايدة لإسرائيل والولايات المتحدة في الأمم المتحدة، وأيضًا ميول البيت الأبيض إلى انتقاد حكومة نتنياهو بأن الإسرائيليين "يفقدون الدعم بسبب القصف العشوائي في غزة"، يدخل التنافس ذروته بين خطاب الصَّهْيَنَة (تأييد الغرب لإسرائيل في بناء دولة على أساس ديني وعرقي وخُطَطِها في توسيع الاستيطان من ناحية) وخطاب الفَلَسْطَنَة (أو رؤية الغرب واقع الصراع التاريخي منذ 1948 بمنظور الشرعية الدولية وحق شعب محتلٍّ في الوجود على أرضه التاريخية، فضلًا عن معارضته لاستهداف المدنيين والأطقم الطبية والصحفيين في غزة من ناحية أخرى).

تحوُّل قياسي

بالنظر إلى تاريخ النكبة الفلسطينية عام 1948، وسلسلة الحروب المتتالية، في 1967 و1973 حتى عام 2021، لم يحدث تحوُّل قياسي أو طفرة غير مسبوقة في انطباعات الجماهير ومواقفها، خاصة في دول أميركا الشمالية وأوروبا، مثلما يحدث حاليًّا في ظل تداعيات الحرب الجديدة على غزة. ومن مؤشرات هذا التحوُّل أن "القناة 12" الإسرائيلية مثلًا توصلت إلى أن الإسرائيليين بعد شهر واحد من الحرب "يواجهون واقعًا جديدًا، فالصور التي تَبرُز في وسائل الإعلام الدولية ليست صور المذبحة في المستوطنات اليهودية، بل هي صور الموت والدمار في غزة". وأضافت القناة في بيانها أن "رواية "الدفاع عن النفس" التي تتبنَّاها إسرائيل فشلت في الوفاء بتوفير مساحة كافية لأنشطة الجيش، وتمَّ التأكيد أن السرديات والصور الفلسطينية أثرت في الرأي العام العالمي".

ويلاحظ أن الإسرائيليين، منذ قيام دولة إسرائيل عام 1948، لم يعايشوا انغماسًا نفسيًّا وذهنيًّا بمزيج من مشاعر الذعر الأمني وفقدان الثقة في المؤسسة العسكرية والاستخباراتية، بمن في ذلك رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، نفسه. وتزداد حاليًّا موجة القلق على مصير الصهيونية التي كانت في صالح اليهود القادمين من أوروبا وأميركا الشمالية أكثر من اليهود الشرقيين القادمين من البلاد العربية. وتنقلب إسرائيل في أعين كثيرين، خاصة فئات الشباب، من أرض ميعاد تاريخي إلى أرض افتراق تاريخي باتجاه أوروبا وأميركا الشمالية.

والخلاصة:

بغض النظر عن الأمد الزمني الذي ستستغرقه الحرب على غزة كصراع ممتد وارتفاع عدد القتلى من المدنيين وتفاقم الأزمة الإنسانية في المحصلة النهائية تحت أنظار وكالات الأمم المتحدة، أضحى خطاب الصهيونية والتأييد السياسي الغربي له في منطقة الانحباس السياسي والثقافي والإعلامي، خاصة وأن الإعلام التقليدي لم يعد يُستقبَل سوى بالتشكيك والاتهام بأنه يكيل بمكيالين. وسيزداد هذا الانحباس في المستقبل بوتيرة أسرع نتيجة تقابل أربعة عوامل رئيسية: بنيوية وديمغرافية وتواصلية وتكنولوجية.

1. يكمن العامل البنيوي في إسرائيل ذاتها كدولة قامت على الصراع وتكابر نفسها على أن استمرار وجودها سيظل قائمًا على الصراع، دون صيغة تفاوضية بين المكاسب والتنازلات، كما هو منطق الأرض مقابل السلام في معادلة حلِّ الدولتين. وقد جرَّ التأييد الأميركي والأوروبي رِجْل العواصم الغربية إلى موقف العسكرة والصراع كل أربع سنوات تقريبًا في السنوات الثماني عشرة الماضية. ولا يرى منظِّرو الواقعية السياسية الحكمة في تواتر هذه الحروب في أي لحظة من زمن الشرق الأوسط التصعيدي باستمرار، بل يخشون أكثر الآن على الطبقة السياسية في إسرائيل بسبب ما تعانيه حاليًّا من أرق وقلق وهلع من شبح أن يتكرر هجوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول.

2. يتمثل العامل الثاني في التركيبة الديمغرافية لكل من مؤيدي إسرائيل ومنتقديها. وكما أوضحت الدراسة، تتمحور فئة مناصري إسرائيل في الرجال أغلبهم من البيض بين الخمسينات والسبعينات ومن مؤيدي الأحزاب المحافظة. وهي فئة عمرية لا تعمَّر طويلًا حسب معدل الأعمار حاليًّا. وستخسر إسرائيل الكثير من المؤيدين؛ إذ إن الشباب بين سن 18 و34 هم الشريحة الاجتماعية الأكبر عددًا والأكثر انتقادًا لإسرائيل. ولهذا العامل قرينة مباشرة مع العامل الثالث المتعلق بطبيعة التحوُّل في أدوات التواصل وطبيعة التواصل وزيادة حرية الفرد في اختيار المادة الإعلامية التي يود الاطلاع عليها أو مشاركتها مع حلقة أصدقائه.

3. فَقَدَ الإعلام التقليدي والمحطات التليفزيونية والإذاعية التي كانت تُبشِّر بإسرائيل بريقها وتأثيرها في أذهان الجمهور. وتحلُّ حاليًّا علاقة جدلية بديلة تختلف دينامياتها عن طبيعة التفاعل التقليدي بين الإعلام والجمهور. ولا تستطيع إسرائيل أو مناصروها في الغرب إيجاد لمسة سحرية لكي يظل الجمهور في العالم بمنزلة مريدين لفتاوى الشيخ القديم. 

4. العامل الرابع وهو التأثير الرقمي في حركية المجال العام دون وصاية مؤسسة أو حركة أيديولوجية. وقد وصلت البشرية إلى أن الحتمية التكنولوجية أصبحت في خدمة المستضعفين ولا تزيد في تفوق المستقوين. ويتضح تضافر العامل الثالث والعامل الرابع بشكل جيد في تنسيق 3891 من المظاهرات المناهضة لإسرائيل في شتى مدن العالم. ولا تستطيع أي طاقة بشرية أو قوة مادية أو كوابح تقنية تجاهل استخدام المجال العام الرقمي منطقة التحضير الأولي قبل النزول إلى الشوارع وأمام المؤسسات السياسية المنشودة.

نقلا عن "مركز الجزيرة للدراسات (الرابط)