خطاب "السيسي" الإعلامي تجاه "الإخوان".. الأبعاد السياسية والتداعيات الأمنية
السبت - 15 فبراير 2025
إنسان للإعلام- قسم الدراسات:
مقدمة:
في الفترة التي سبقت الانقلاب على الرئيس المصري المنتخب محمد مرسي في 3 يوليو 2013م، برزت مظاهر عدائية واضحة ضد جماعة الإخوان المسلمين، تجسدت في الخطاب الإعلامي والممارسات الأمنية التي اتّخذها الجنرال عبدالفتاح السيسي، إذ كان له في مرحلة ثورة يناير، عندما كان قائدا للمخابرات الحربية، تهديدات ضمنية لرموز من الجماعة في ميدان التحرير[1].
وعقب نجاح الثورة، وحصول جماعة الإخوان على أغلبية برلمانية، وتتويج مرشح منها برئاسة الجمهورية، تصاعدت موجات العنف ضد الجماعة بعد تمهيد الطريق لذلك إعلاميا؛ فوقعت اشتباكات أمنية عنيفة أسفرت عن سقوط ضحايا، كما تم حرق ونهب لمقرات حزب "الحرية والعدالة"، الذراع السياسية للإخوان، في عدة محافظات[2].
وقد أدت هذه الأحداث إلى خلق مناخ من الاحتقان، تجلى في تنظيم تظاهرات وتصريحات إعلامية نادت بـ"الثورة على الإخوان" والمطالبة بتسليم مقارهم إلى الدولة باعتبارها "كيانات غير شرعية."[3]
ومع إعلان الانقلاب في 3 يوليو 2013م، دخل الخطاب الرسمي مرحلة جديدة اتسمت بتصعيد الإجراءات الإعلامية والقانونية ضد جماعة الإخوان؛ إذ اعتمد السيسي وصفهم بـ"أهل الشر" وصنَّفهم رسمياً كـ"جماعة إرهابية"، وتُوِّج هذا التصعيد بمذابح ميدانية مروعة، أبرزها ما حدث في ميداني "رابعة العدوية" و"النهضة" في 14 أغسطس 2013م.
ومنذ ذلك الحين، استمر النظام في استخدام كافة وسائل الإعلام لتشويه صورة الإخوان، في محاولة لبناء جدار فاصل يبعدهم عن نسيج المجتمع، ومن ثم الانقضاض عليهم وإنهاء وجودهم السياسي.
ويرى بعض المحللين أن دوافع هذا العداء ترتكز على التنافس على السلطة، وسعي السيسي إلى الحفاظ على هيمنة الجيش على موارد الدولة، إلى جانب مخاوفه من فتح ملفات أسرار قيادات الجيش بعد التجارب الانتخابية التي برهنت على تراجع القوى اليسارية والليبرالية أمام شعبية الإسلاميين.
في هذه الورقة البحثية نسلط الضوء على طبيعة خطاب السيسي المعلن ضد جماعة الإخوان المسلمين، وتحليل مفرداته للكشف عن الدلالات الكامنة فيه والآثار العملية لهذا الخطاب على الجماعة والمجتمع المصري.
ومن خلال هذا التحليل، نسعى إلى تقديم فهم أعمق للأبعاد السياسية والأمنية التي تشكلت نتيجة هذا الخطاب، وكيف أدى إلى إعادة تشكيل المشهد السياسي في مصر خلال العقد الأخير.
تتضمن الورقة أربعة محاور، تشمل: تحولات الخطاب الإعلامي للسيسي من الثورة إلى الانقلاب، واستراتيجية التخويف من جماعة الإخوان، وخصائص خطاب ما بعد الانقلاب، ثم الإجراءات القانونية والإدارية الاستثنائية وارتباطها بالبعد الخارجي، ونختم الدراسة بخلاصة ومجموعة من التوصيات.
أولا- تحولات الخطاب من الثورة إلى الانقلاب:
تشير الدراسات الحديثة إلى أن الجيش المصري بقيادة عبد الفتاح السيسي، إلى جانب بعض النخب السياسية الموالية له، أدركوا صعوبة القضاء على جماعة الإخوان المسلمين بعد أن وصلوا إلى الحكم بدعم شعبي واسع.
لهذا نما القلق من بقاء النظام المدني الجديد بقيادة الإسلاميين، إذ كان من المخشيات أن يؤدي استمرار هذا النظام إلى زعزعة «دولة الضباط» التي حكمت مصر على مدى ستة عقود وترسخت في كافة مفاصل الدولة.
وقد أكدت الأحداث التي تلت مذابح «رابعة» و«النهضة»، وغيرها من المذابح التي وقعت قبلها أو بعدها، أن التخطيط للتخلص من الإخوان كان متأصلًا في استراتيجية تعتمد على استخدام العنف الدموي، مدعومًا بحملة إعلامية مكثفة هدفت إلى تشويه صورة الجماعة وزرع الكراهية لها في صفوف الجمهور المصري.
ويفسر هذه الاستراتيجية استخدام الذخيرة الحية في عمليات قتل لم تشهدها مصر في تاريخها الحديث.
1- تشكيل الخطاب وصناعة الصورة
ركز الإعلام بمختلف قنواته وأشكاله على ربط جماعة الإخوان المسلمين مباشرةً بجماعات مسلحة متطرفة مثل تنظيم القاعدة وتنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، حيث صُوِّرت بأنها «أساس كل جماعات العنف»، واستمر هذا الخطاب في التأثير على الرأي العام حتى يومنا هذا.
وعندما انتقد بعض المحللين هذا الخطاب الإعلامي، وُصِفوا إعلاميًا بأنهم «أدوات» في يد الإخوان و«عملاء» يتواطؤون مع قوى يعتبرها البعض معادية للأمن القومي.
وفي هذا السياق، يشير الكاتب ستيفن كوك في مقاله المنشور بمجلة فورين بوليسي، بتاريخ 30 أغسطس 2023م، إلى أن محاولة السيسي إعادة كتابة الخطاب القومي المصري عبر استبعاد دور الإخوان المسلمين من الأحداث الوطنية تُعد مسألة حساسة؛ إذ لعبت الجماعة دورًا مهمًا في مراحل محورية من التاريخ المصري في القرن العشرين، مما يجعل محو أثرها ذا طبيعة معقدة لا يمكن تجاهلها حتى بعد محاولات القمع والتصفية[4].
2- التحول في خطاب السيسي
يتضح من تحليل الخطاب السياسي الذي تبناه السيسي تجاه الإخوان أن هناك تحولًا واضحًا في اللغة والأسلوب قبل وبعد الانقلاب، ففي الفترة التي سبقت الانقلاب، كان الخطاب يتضمن إشارات إيجابية؛ إذ كان السيسي يُظهر دعمه للرئيس مرسي ويصف الإخوان بأنهم «أناس أطهار». إلا أنه بعد الانقلاب تحولت هذه الأوصاف إلى مرادفات سلبية مثل «أهل الشر»، مما يعكس تغييرًا منهجيًا في الأسلوب الخطابي.
وقبل الانقلاب مباشرة، كان السيسي يستخدم لغة عامة تصف «الأوضاع المتردية التي تمر بها البلاد»، مع إمهال «جميع الأطراف» مهلة زمنية قصيرة (أسبوعًا) لإيجاد حلول، بينما كان في الكواليس يُحرّك الأحداث ويحث على اضطرابات تهدف إلى إسقاط نظام الرئيس مرسي.
وتظهر هذه التناقضات جليًا في الفترة الانتقالية، حيث التظاهر بالتدين والتواضع من خلال مشاهد رمزية مثل حمل حذاء الرئيس بعد الصلاة، فيما كانت التصريحات الفعلية تحمل معاني مزدوجة تُهيئ الساحة لتدخل عسكري حاسم[5].
وفي الأسابيع التي سبقت الانقلاب، برزت تصريحات غامضة من السيسي تحمل نبرة تهديدية مبطنة، مما أدّى إلى تفسيرات متفاوتة من قبل قادة الإخوان والإسلاميين من جهة والمعارضة السياسية من جهة أخرى.
وقد فسر البعض هذه التصريحات بأنها تلمح إلى تدخل الجيش لصالح «جبهة الإنقاذ» ضد الرئيس مرسي والإخوان، وهو ما تحقق عمليًا بصورة تختلف عن توقعات المعارضة آنذاك.
كما تُظهر البيانات الصادرة عن الجيش المصري بعد أحداث 30 يونيو 2013 تحولات واضحة في الخطاب؛ فقد أُعلنت دعوات لتحمل المسؤولية من قبل جميع القوى السياسية، مع تحديد مهل زمنية قصيرة (48 ساعة) لإيجاد حلول للأزمة السياسية، تلتها بيانات أعلن فيها الجيش عن نيته التدخل وإصدار خارطة مستقبلية تشمل مشاركة مختلف الأطياف السياسية.
وفي مساء 3 يوليو 2013، جاء بيان السيسي بوضوح داعيًا إلى إجراء انتخابات رئاسية مبكرة وتعطيل العمل بالدستور، مع تعيين رئيس المحكمة الدستورية العليا كرئيس مؤقت، مستندًا إلى "مسؤولية القوات المسلحة الوطنية في إنهاء حالة الصراع والانقسام المجتمعي."، حسب قوله.
3- من التبرير إلى المؤامرة
تضمنت خطابات السيسي عقب الانقلاب محاولات لتبرير التدخل العسكري، إذ أشار إلى أنه حاول إقناع الرئيس مرسي بإجراء انتخابات رئاسية مبكرة أو استفتاء على رئاسته، دون توضيح العلاقة بين هذه المحاولات وتدخل الجيش المباشر في العملية السياسية.
وقد سعى السيسي من خلال خطاباته إلى تقديم نفسه كزعيم سياسي أعلى من كونه قائدا عسكريا، معتمدًا على أسلوب يتضمن الثناء على ما قام به «لإنقاذ مصر".
وأثناء أحداث الانقلاب، اعتمد السيسي خطابًا يعتمد على أسلوب الصدمة والترويع من خلال المذابح، فيما بُنيت صورة «المخلص الأمين» الذي أنقذ مصر.
وقد بدأ هذا الخطاب يُشيع روايات تشير إلى أن قادة الإخوان – وفي مقدمتهم نائب المرشد العام خيرت الشاطر – كانوا يهددون قادة الجيش، على الرغم من تجنب استخدام مصطلح «الإخوان» بشكل مباشر في بعض المناسبات.
واستمر هذا النمط من السرد الإعلامي في الانتشار لسنوات، حتى جاء تصريح من السيسي في 27 أبريل 2023م قال فيه: «لو كنت تآمرت على الرئيس مرسي يبقى تآمرت على مصر»، وهو ما فُسِر من قبل البعض باعتباره اعترافًا ضمنيًا بوجود تآمر.
ثانيا- استراتيجية التخويف من جماعة "الإخوان":
اعتمد عبد الفتاح السيسي استراتيجية للتخويف من جماعة الإخوان المسلمين وإطارها الأيديولوجي والسياسي، تقوم على بناء جبهة مضادة داخل الخطاب الإعلامي، وبث تصريحات متناقضة تهدف إلى تشويه سمعة الرئيس المنتخب محمد مرسي والجماعة، وذلك من خلال عدة محاور:
1- استعداء أمريكا والغرب
في 3 أغسطس 2013م، أي قبل وقوع "مذبحة رابعة" بعدة أيام، أجرى الفريق السيسي حوارًا مع جريدة "واشنطن بوست" الأمريكية، عبّر فيه عن غضبه من موقف الولايات المتحدة تجاه ما وصفه بـ"تمرد شعب حر ضد حاكم لا يتصف بالعدل"[6].
وقد أشار في هذا الحوار إلى أن وزير الدفاع الأمريكي، شاك هيجل، كان يتصل به بصورة شبه يومية، مؤكدا أن الولايات المتحدة تتمتع بنفوذ كبير على جماعة الإخوان المسلمين، وأنه "إن أرادت وقف نزيف الدم فعليها أن تستخدم تأثيرها لإقناع الإخوان بفض اعتصامهم المستمر منذ الثالث من يوليو 2013"، وأنّه يتمنى أن تستعمل الإدارة الأمريكية هذا التأثير لحل الصراع الحالي.
كما حاول السيسي في الحوار استدعاء مصالح الولايات المتحدة وحلفائها، لا سيما "إسرائيل"، إذ أبرز أن "الجيش المصري يتلقى دعمًا حاسمًا من الولايات المتحدة التي أيدت معاهدة السلام مع إسرائيل لعقود طويلة"، مشيرًا بذلك إلى أن حماية مصالح الولايات المتحدة وحلفائها تعد من الأولويات التي يستند إليها الانقلاب.
2- نفي الوطنية عن الإخوان
كما لم يُخفِ السيسي تمييزه بين الإخوان والمسائل الوطنية، إذ قال: "الفكرة التي توحد جماعة الإخوان المسلمين ليست الوطنية أو القومية أو الشعور بالانتماء للبلد"، ولم ينفِ أنه انقلب على مرسي؛ إذ ربط ذلك بالانتماء إلى "الإمبراطورية الإسلامية".
وأوضح قائلاً: "الإخوان لديهم وجود في أكثر من 60 دولة، والفكرة التي تربطهم ليست نابعة من الوطنية أو الإحساس بالوطن، بل هي أيدولوجية ترتبط تمامًا بمفهوم 'المنظمة".
ومن خلال هذه التصريحات، سعى السيسي إلى تصوير جماعة الإخوان على أنها كيان إيديولوجي دولي لا يستند إلى الانتماء الوطني، بل إلى مشروع استعادة "الإمبراطورية الإسلامية"، وهو ما اعتبره دافعًا رئيسيًا للانقلاب ضد مرسي.
وفي سياق متصل، اعترف السيسي بأن جماعة الإخوان تُعتبر كيانًا يحظى بشعبية ودعم كبير في الشارع المصري، إذ ذكر أن "مرسي تولى السلطة في أول انتخابات حقيقية بعد سقوط مبارك، لأنه يدعمه كثير من الإخوان وغير الإسلاميين، الذين يحبون الجماعة بسبب سمعتها الطيبة وأعمالها الصالحة".
ومع ذلك، لم يتوانَ عن استخدام لغة التخويف، حيث قال: "الإخوان أكثر إخلاصًا لمعتقداتهم الإسلامية من وطنهم"، في محاولة لإظهارهم ككيان "جهادي" عابر للأوطان، مهددًا مصالح الولايات المتحدة على غرار تنظيم القاعدة.
3- بناء جبهة مضادة للجماعة
امتد النهج التخويفي للسيسي ليشمل مساعي منهجية لشق الشعب المصري إلى فريقين، بحيث يتم خلق جبهة مضادة للإخوان ومناصريهم، رغم أن عنوان الانقلاب نفسه ندد بـ"حرب أهلية محتملة بين المصريين لو استمر الإخوان في الحكم".
وقد اتخذ النظام، بقيادة السيسي، أسلوبًا إعلاميًا مكثفًا، حيث شملت البرامج التلفزيونية (برامج "التوك شو") خطابًا موحدًا ضد الإخوان، مما أسهم في تأجيج الانقسامات داخل المجتمع المصري.
ومن ضمن الأدوات الإعلامية التي اعتمدها النظام، برز إنتاج المخابرات لأغنية "إحنا شعب وانتو شعب .. لينا رب وليكو رب" بصوت وأداء علي الحجار، وذلك في إطار محاولة سريعة لاستقطاب الرأي العام نحو رؤية ثنائية.
وجاء هذا في وقت كان فيه السيسي ومؤيدوه يرفعون تهمة تقسيم مصر في وجه الرئيس مرسي، بزعم أنهم قاموا بتقسيم البلاد إلى فئتين: إخوان وغير إخوان.
وعلاوة على ذلك، تحول الخطاب الإعلامي المؤيد للانقلاب إلى أداة تحريضية بصيغة الأمر، إذ صدرت توجيهات تتضمن عبارات مثل: "اعتقله .. سلمه للشرطة .. ألغ حزبه .. امنع جماعته .. احرمه من حقوقه السياسية .. عذبه .. افصله من عمله .. أحرمه من رزقه"، وهي لغة تحذيرية شديدة الحدة تذكر بتكتيكات خطاب الأنظمة الديكتاتورية التي تتبنى لغة هتلر النازية.
كما انعكس هذا التقسيم، الذي أوجده السيسي، على المجتمع المصري بطرق عدة، فقد لاحظت صحيفة "نيويورك تايمز"، في 12 سبتمبر 2014، ظهور ما أطلق عليه "عبادة السيسي" أو "عبيد السيسي"، وهو ما لم يقتصر على المطالبة بتعيين السيسي رئيسًا لمصر دون انتخابات، بل تعدى ذلك إلى تحريف نصوص دينية لصالحه من قبل بعض التيارات العلمانية. وقد تبادلت هذه التيارات صورًا ومقاطع على مواقع التواصل الاجتماعي مثل "فيسبوك"، إذ تم تداول صور قام فيها ملحدون وأقباط بتحريف سور وآيات من القرآن الكريم؛ من أمثلتها تسمية سورة "يس" باسم "السيسي" مع تحريف آياتها، مصحوبة بتعليق يقول: "عزيزنا معالي الفريق أول عبد الفتاح السيسي تستحق أن نفخر بك ويكون لك سورة باسمك من النور في القرآن"[7].
ودعا هؤلاء إلى تأليف قرآن جديد خالٍ من العنف والتحريض على القتال، وينادي بالإخاء وقبول الآخر وتفعيل الإنسانية بين الناس، مما أثار موجة غضب عارمة على مواقع التواصل الاجتماعي وطالب بالمحاسبة السريعة للمسؤولين عن هذا السلوك.
4- تشويه صورة الرئيس مرسي
يعد تشويه صورة الرئيس مرسي وجماعة الإخوان من أهم عناصر استراتيجية التخويف، وقد استخدم السيسي تصريحات متناقضة تهدف إلى التأكيد على فشل المشروع السياسي للإخوان، بالإضافة إلى إضفاء الشرعية على الانقلاب.
ومن بين أشهر تصريحات السيسي في هذا السياق قوله: "ده خد السلم معاه فوق"، في إشارة ضمنية إلى أن الرئيس مرسي لن يتنازل عن السلطة، رغم أنه جاء من خلال انتخابات حقيقية ورفض دعوة لإجراء انتخابات مبكرة إلا بشروط محددة تضمن حقوق الشعب، إلا أن السيسي نفسه لم يحافظ على هذا "السلم"، بل قام بتحطيمه لمنع أي ظهور لشخصية أخرى على السلطة، كما تجلى ذلك في تعديل الدستور لتمديد فترة حكمه حتى عام 2030.
وفي مارس 2014، اتهم السيسي الإخوان والرئيس مرسي بأنهم يرغبون إما في حكم مصر أو قتل شعبها، إذ زعم أنهم قالوا: "يا نحكمكم يا نقتلكم". وقد تناول هذا الادعاء في سياق تصريحات وجهت لطلاب كليات عسكرية، حيث ذكر السيسي أنه طلب من الرئيس السابق أن يعرض نفسه على الشعب في استفتاء، مع التأكيد على أن الأغلبية ستقرر مصير السلطة، وفي حال عدم حصوله على الأغلبية لن يتم السماح له بمواصلة الحكم.
وأشار إلى أن الرد الذي تلقاه من مرسي كان عبارة عن "يا نحكمكم يا نقتلكم"، وهو ما نفته جماعة الإخوان واصفةً هذا التصريح بأنه من "أكاذيب السيسي" التي بُني حكمه عليها.
5- تهديد مباشر لجماعة "الإخوان"
كما حاول السيسي في مقابلة أجرتها مجلة "دير شبيجل" الألمانية، في فبراير 2015، تبرير أسلوب حكمه الديكتاتوري بادعائه أنه لا ينتهك حقوق الإنسان، وأن تلك الحقوق لا تقتصر على قضايا معينة تخص الإخوان فحسب، بل تشمل أيضًا جوانب المأكل والملبس وغيرها. وقد أفاد قائلاً: "لا يستطيع أحد تعريف حقوق الإنسان بذات المنظور الضيق الذي تحكمون به .. استغلال جماعة الإخوان المسلمين لوعي الشعوب، وتشويه أفكارهم يمثل أيضاً انتهاكاً لحقوق الإنسان .. إذا لم تكن قادراً على تلقي تعليم جيد أو توفير سكن أو تقلد وظيفة وينعدم أملك في المستقبل، فإن ذلك يمثل أيضاً انتهاكاً لحقوق الإنسان .. لا ينبغي أن تقتصر حقوق الإنسان على حرية التعبير فحسب[8]".
ورداً على هذا التعريف غير المعتاد لحقوق الإنسان، أعادت مجلة "دير شبيجل" التأكيد على أن التصريحات تثير القلق، فيما اعتبرت صحيفة "واشنطن بوست" أن "ديكتاتورية السيسي" هي الأكثر إزعاجًا في العالم، مشيرة إلى أن أسباب تصادم الأنظمة الديكتاتورية مع مبادئ الديمقراطية تتزايد في حالة السيسي بشكل يفوق أي ديكتاتور آخر.
وعندما قُتل النائب العام السابق هشام بركات في عام 2015، وتبع ذلك تهديد السيسي بتنفيذ أحكام الإعدام التي أصدرتها المحاكم، وصفت صحيفة "يديعوت أحرونوت" الصهيونية الكلمة التي أدلى بها خلال جنازة بركات بأنها "رسالة وعيد شديدة اللهجة لجماعة الإخوان المسلمين".
وبدلاً من فتح نقاش جاد حول إيجاد حلول سياسية للأزمة التي تواجهها مصر وإمكانية المصالحة، تصاعدت الهستيريا السياسية والإعلامية، وظهرت تصريحات من كبار رجال الدولة تفيد بأن السيناريو القادم سيكون أسوأ، وأن الرد الحكومي سيشمل تسريع تنفيذ أحكام الإعدام ضد الرئيس محمد مرسي وقادة الإخوان عبر تغيير قوانين القضاء.
وأثناء مشاركته في جنازة النائب العام، علق السيسي قائلاً: "الدولة ستنفذ كل الأحكام القضائية التي سيصدرها القضاء، سواء كانت إعدامًا أو مؤبدًا .. لو هتصدر أحكام الإعدام هيتنفذ حكم الإعدام.. لو هتصدر حكم بالمؤبد هينتفذ".
وأضاف: "خلوا بالكم، إيد العدالة الناجزة مغلولة بالقوانين، ومش هنستنى على ده، إحنا هنعدل القوانين اللي تخلينا ننفذ القانون والعدالة في أسرع وقت ممكن، وخلال أيام هتتعرض قوانين الإجراءات الجنائية المضبوطة. إحنا بنقابل إرهاب لازم يبقى فيه محاكم وقوانين تواجه ده، مش هنقعد 5 سنين أو 10 سنين نحاكم، دول بيصدروا الأوامر من داخل القفص، وإحنا هنخلي القانون يواجه ده".
تُظهر هذه التصريحات كيف وظف السيسي الخطاب القانوني لتبرير الإجراءات القمعية ضد الإخوان والمعارضين، ولتعزيز صورة النظام كجهة لا ترضى بتراخي العدالة.
ثالثاً: خصائص خطاب ما بعد الانقلاب:
شهدت الفترة التي أعقبت سيطرة الرئيس عبد الفتاح السيسي على الدولة بقوة السلاح، وتلقيه للدعم غير المسبوق من دول أوروبا والولايات المتحدة والخليج العربي، تحولاً واضحاً في المنهج الخطابي الرسمي، خاصةً في ما يتعلق بمعالجة موضوع جماعة الإخوان المسلمين ومفهوم الإرهاب.
ونسعى في هذا الجزء من الدراسة إلى إظهار كيف تم استخدام مفاهيم مثل المؤامرة والإرهاب كأدوات لتبرير سياسات قمعية ولإعادة صياغة الهوية السياسية للسلطة، مع إبراز دور الإعلام في تكييف الخطاب الرسمي وتوظيفه لأغراض دعائية.
1- إعلان الانتصار على جماعة "الإخوان"
ألقى السيسي خطاباً مهما في مجلس النواب، بتاريخ 13 فبراير 2016، ركز فيه على إعلان انتصاره على جماعة الإخوان، حيث قال: «نجحنا في إبطال مخطط ومؤامرة وهناك من يريد عرقلة مشروعنا الوطني».
يُظهر هذا التصريح محاولة السيسي تأطير الأحداث على أنها مواجهة بين قوى إرهابية تهدد الاستقرار الوطني، وبين المشروع الوطني الذي يسعى إلى ترسيخ النظام القائم.
وفي سياق متصل، سعى السيسي إلى الربط بين تنظيم الدولة الإسلامية وجماعة الإخوان، إذ ذكر: «تعرضنا لموجهة تنظيمات أرادت أن تنشر الفوضى والإرهاب بين ربوع الوطن، ولكن بفضل من الله وإرادة وطنية استطعنا أن نكسر شوكة تنظيمات الإرهاب في الوادي وسيناء وعلى حدودنا".
2- رسائل خطابية متناقضة حول الجماعة
لوحظ في الخطاب الذي ألقاه السيسي رسائل متضاربة تتضمن محاولات للمصالحة إلى جانب تصنيف الجماعة رسميّاً على أنها "إرهابية".
ففي أحد المقاطع، أشار السيسي إلى عرضه، في 3 يوليو 2013، على الإخوان أن ينخرطوا المشاركة السياسية، ليعيد فيما بعد رفض الحوار معهم، إذ يصفهم بأنهم «أهل الشر».
كما عبّر عن قلقه الشديد حيال تأثير الإخوان بقولٍ آخر: «أنا همي بلدي وأمنها وسلامها، هناك ناس كثر مش كويسين، لابد أن يتوقفوا ويشوفوا هم فين من مصلحة الوطن، نحن في أصعب ظروف تواجه الوطن في تاريخه المعاصر».
وفي تصريح آخر، أشار إلى البحث عن مخرجٍ لا يكون على حساب الوطن، مشيراً إلى أن ما تم تقديمه في بيان 3 يوليو لم يكن كافياً للإخوان[9]؛ بحيث كان من المفترض تقديم "دور جديد في العملية السياسية"، يتمثل في بدء مرحلة جديدة يكون فيها للشعب دورٌ محوريّ في اختيار مستقبل البلاد، وهو ما اعتبره مخرجاً من الأزمة.
3- صياغة هوية سياسية مغايرة
سعى السيسي من خلال خطاباته إلى تقديم صورة ذاتية مغايرة عن نفسه وعن سياساته، ففي أحد التصريحات أكد بثقة: «اللى عايز يبقى من قوى الخير يبعد عن أهل الشر»، ثم تابع قائلاً: «اسمحوا لي أكلمكم عن نفسي كويس.. الناس اللي في الجيش عارفيني كويس مكنتش أتنمنى إني أتكلم كده».
واستمر في تعريف نفسه بقوله: «أنا قدمت نفسي كالآتي.. أنا مش إخوان ولا هبقى إخوان.. وأنا مش سلفي ولا هبقى سلفي، أنا مسلم بس.. أنا إنسان مسلم بس».
كما وجه رسالة ضمنية للشعب المصري تدعوه إلى التصدي لأي معارضة، إذ حذّر من أن الاستقرار والأمن الظاهري قد يخفيان تحديات مستمرة، مبرزاً أن فكرة المؤامرة لا تزال حاضرة بين "أهل الشر"، وأنهم "ما زالوا يعملون وسيعملون ضد مصر".
وأكد أيضاً أن كل المحاولات التي كانت تُدبر ضد مصر قد باءت بالفشل، مُشددًا على أهمية الحفاظ على الكتلة الوطنية لمواجهة "قوى الشر".
ولم يقتصر تأثير خطاب السيسي على الساحة السياسية فقط، بل تعداه إلى استخدام الإعلام المؤيد للنظام لهذه الرسائل بشكلٍ ممنهج. فقد قامت بعض الجهات الإعلامية بتوزيع الأدوار وتوظيف البرامج الإعلامية لخدمة الرسائل الخطابية نفسها.
4- "أكاذيب كبرى" حول الإرهاب
و على سبيل المثال، تم اقتطاع عبارة من كلمة الدكتور محمد البلتاجي، القيادي في جماعة الإخوان، خلال ظهوره على منصة "رابعة"، حيث قال: «الانقلاب لن يجلب الهدوء في سيناء». وقد اُستخدم هذا الاقتباس، المجتزأ من سياقه الأصلي، للدلالة على تورط الإخوان في دعم الإرهاب في سيناء، على الرغم من أن نص خطاب البلتاجي الأصلي لا يحمل مثل هذا المعنى.
وبرغم الجهود الدعائية المكثفة التي بُذلت لتأكيد نجاح النظام في مكافحة الإرهاب، فإن الواقع الميداني أظهر سلسلة من الهجمات التي ارتكبتها مجموعات تابعة لتنظيم الدولة الإسلامية في سيناء على القوات المسلحة والشرطة.
ويُشير هذا التباين بين الخطاب الرسمي والواقع إلى احتمالين: إما أن يكون هناك فشل حقيقي في مواجهة الإرهاب، أو أن يكون هناك رغبة متعمدة في استمرار الإرهاب من خلال التخطيط والدعم، ليُستخدم لاحقاً كذريعة لاستمرار قمع المعارضة، ولا سيما جماعة الإخوان، تحت ستار مكافحة الإرهاب.
وضمن الخطاب الذي تبناه الإعلام الموالي للسيسي، برزت ثلاثة ادعاءات رئيسية وصفها الباحثون بأنها "أكاذيب كبرى"، تتعلق بتهديدات مزعومة من قبل جماعة الإخوان:
أ. ادعاء تهديد ثلاثي من قبل الإخوان
زعم السيسي أن جماعة الإخوان قد هددته ثلاث مرات، وكانت إحدى هذه التهديدات من خيرت الشاطر نائب المرشد العام. ووفقاً لهذه المزاعم، فقد استمر الشاطر في تهديد السيسي لمدة 45 دقيقة بإشعال مصر.
وقد استغل مسلسل "الاختيار" هذه المزاعم في إطار سرد درامي يدّعي فيه أن السيسي كان يقف في وجه الإخوان، فيما رفض نشطاء معارضون هذه الادعاءات مؤكدين أن السيسي معتاد على ترديد مثل هذه الأكاذيب.
ب. أكذوبة نتائج الانتخابات الرئاسية
تتضمن الأكذوبة ادعاءً يتعلق بالمشير حسين طنطاوي، وزير الدفاع آنذاك، والذي نسب عبر مسلسل "الاختيار"، للمهندس خيرت الشاطر قوله أنه «في حال لم تأتِ النتائج في صالح الرئيس مرسي سنولع البلد».
ويتناقض هذا الادعاء مع تسريب حقيقي بثه المسلسل ذاته، حيث يُظهر تسريبٌ صوتي تصريحات للرئيس محمد مرسي، الذي كان مرشحاً آنذاك، يشير فيها إلى أنه "إذا تغيرت النتائج لصالح أي شخص فإن العواقب ستكون كارثية". ويشير هذا التناقض إلى ضعف مصداقية الرواية الرسمية.
ج. ادعاء تهديد خيرت الشاطر للسيسي
تتمثل الأكذوبة الثالثة في مزاعم السيسي بأن خيرت الشاطر هدد مباشرة بالقتل وتخريب البلاد، حيث صرح قائلاً: «قسماً بالله 45 دقيقة يعمل لي بإيده كده» مع إشارةٍ ضمنية إلى استخدام المسدس.
وقد تحدى نشطاء النظام هذا الادعاء مطالبين بنشر دقيقة واحدة من تسجيلات التسريب التي تثبت استمرار التهديد لمدة 45 دقيقة كما زعم السيسي.
وأكد المنتقدون أنه، بالنظر إلى التسريبات العديدة التي تُظهر موقف خيرت الشاطر المناهض للعنف والإرهاب والتطرف، فإن عدم ظهور أي دليل يثبت تهديداً مباشراً بالسلاح من جانبه يُشير إلى احتمالية كون هذه الروايات جزءاً من حملة ترويجية وتزييفٍ موجه لتشويه صورة الإخوان.
علاوة على ذلك، أثار هذا الخطاب تساؤلات حول مصداقية الرواية الرسمية؛ إذ تساءل بعض المعلقين: «طالما أن الرئيس مرسي وخيرت الشاطر وقيادات الإخوان كانوا تحت السيطرة ويتم تسجيلهم بالصوت والصورة، فلماذا لم تظهر التسريبات التي توثق تهديدات بالسلاح أو تصريحات تتضمن أوامر مباشرة؟».
كما انتقد آخرون لجوء المسلسل إلى التمثيل وعدم عرض المشاهد الحقيقية، مما أعطى انطباعاً بأن الروايات المقدمة مختلقة وغير مطابقة للواقع.
رابعا: الإجراءات القانونية والإدارية الاستثنائية:
بالتزامن مع حملات التحريض الإعلامي، شرعت الحكومة المصرية في اتخاذ سلسلة من الإجراءات القانونية والإدارية الاستثنائية ضد جماعة الإخوان المسلمين، إذ اعتمد النظام ما يسمى بـ «لائحة الإرهاب» وإجراءات قمعية تهدف إلى تفكيك البنية التنظيمية والسياسية للجماعة، ففي يوم الاثنين 23 سبتمبر 2013، أعلن التلفزيون المصري أن القضاء أقرّ حكمًا يقضي بحظر "نشاط" جماعة الإخوان المسلمين على كامل الأراضي المصرية، مع فرض تحفظات صارمة على ممتلكاتها.
وقد جاء هذا الإجراء في سياق سعي السلطات إلى تأطير النشاط السياسي والإعلامي للجماعة ضمن إطار "مكافحة الإرهاب".
وبعد ذلك، وفي يوم السبت 25 ديسمبر 2013، أعلن وزير التضامن الاجتماعي أحمد البرعي أن الحكومة أدرجت جماعة الإخوان المسلمين ضمن قائمة المنظمات الإرهابية.
1- حادث تفجير مديرية أمن الدقهلية
ويُذكر أن هذا الإعلان جاء بعد يوم واحد من وقوع حادث تفجير في مديرية أمن الدقهلية شمال القاهرة، ليلة 24 ديسمبر 2013، الذي أسفر عن سقوط 16 قتيلاً وإصابة نحو 140 شخصًا، وقد استُخدمت هذه الواقعة كذريعة لإظهار الجماعة على أنها جهة إرهابية تُهدد أمن واستقرار الدولة.
كان حادث تفجير مديرية أمن الدقهلية نقطة تحول في سردية الحكومة المصرية بشأن جماعة الإخوان المسلمين، فقد اتهمت السلطات الجماعة بالضلوع في التخطيط والتنفيذ، إذ أعلن وزير الداخلية آنذاك، محمد إبراهيم، في مؤتمر صحفي أن تنظيم الإخوان تورط في التفجير بالتنسيق مع تنظيم "أنصار بيت المقدس"، وبمساعدة لوجستية كاملة من حركة المقاومة الإسلامية (حماس) في قطاع غزة.
ومع ذلك، أوردت مصادر أمنية رفيعة المستوى تفاصيل تضيف بعدًا آخر على الحادث، حيث أشارت إلى أن قيادات قطاع الأمن الوطني تتحمل المسؤولية الكاملة عن سقوط الضحايا في تفجير مبنى مديرية أمن الدقهلية.
وأوضحت هذه المصادر، في تصريحات خاصة لصحيفة "المصري اليوم"، أن الانتحاري الذي نفذ التفجير كان شخصا متعاونًا مع عناصر من جهاز الأمن الوطني (أمن الدولة المنحل)، وقد تم ضبطه من قبل ضباط مديرية أمن القاهرة مرتين، وتم تجنيده عن طريق ضباط الأمن الوطني في قطاع شرق القاهرة[10].
وعلى الرغم من هذه المعطيات، استُخدم الحادث كذريعة لتصنيف جماعة الإخوان كجماعة إرهابية، ما مهد الطريق أمام اتخاذ إجراءات استثنائية وقمعية ضدها.
2- جدلية الدور الديني للإخوان
وفي إطار الخطاب السياسي ضد الإخوان، جاءت تصريحات عبد الفتاح السيسي، في مقابلة أجراها معه الصحفي "بيرت ستيفنز" لجريدة "وول ستريت جورنال"، نشرت يوم 20 مارس 2015، حيث سعى السيسي إلى تأطير شخصيته بصورة "المصلح المنتظر للإسلام".
وفي تلك المقابلة، تناول السيسي موضوع الدين بشكل غريب، حيث صرح بأن "الإسلام لم يقل إن المسلمين فقط سيذهبون إلى الجنة والآخرين إلى النار".
كما قال في ردّه على سؤال حول ما إذا كان هذا يعني أن جماعة الإخوان تتألف من مجموعة من المسلمين السيئين: "إنها الأيديولوجية والأفكار"، وأضاف وهو يشير بإصبعه للتأكيد: "نحن لسنا آلهة على الأرض، وليس لدينا الحق في التصرف باسم الله".
بالإضافة إلى ذلك، زعم الصحفي "بيرت ستيفنز"، الذي يُعتبر من التيار الصهيوني، أن ما أوصل جماعة الإخوان إلى السلطة كان التعاطف المصري مع مفهوم الدين؛ "إذ اعتقد الكثير من المصريين أن الإخوان كانوا دعاة الإسلام الحقيقي، إلا أن السنوات الثلاث التي تلت وصولهم إلى الحكم كشفت أن هؤلاء الذين يروجون الأفكار الدينية لم يكونوا جديرين بالتعاطف الذي أوليه لهم الشعب"، حسب قوله.
3- تخويف من الدور السياسي للجماعة
في نوفمبر 2015، وفي تحول مفاجئ أثار استغراب المراقبين السياسيين، صرح السيسي بأن "جماعة الإخوان جزء من الشعب المصري، والشعب هو من يقرر طبيعة الدور الذي يمكن أن تلعبه الجماعة في المستقبل"، بحسب ما نقلت وكالة الأنباء الفرنسية.
ويُعتبر هذا التصريح محاولة من السيسي لامتصاص الغضب والانتقادات الموجهة إليه من برلمانيين وصحافيين بريطانيين بسبب سجل حقوق الإنسان. وفي مقابلة مع قناة "بي بي سي" في الشهر نفسه أكد السيسي على هذه النقطة، وقال إن الإخوان هم جزء من الشعب المصري وأنه على المواطنين أن يقرروا مستقبلهم السياسي[11].
هذه التصريحات تتناقض مع تصريحات سابقة صدرت، في 30 يونيو 2014، عقب جنازة النائب العام هشام بركات، حيث أعلن السيسي عزمه تشديد القوانين وتنفيذ العقوبات الجنائية بسرعة ضد المتشددين، مع التأكيد على "تنفيذ أحكام الإعدام".
وبعد ثلاث سنوات، في 13 أكتوبر 2018، قال: "لا دور للإخوان في مصر ما دمت موجودًا في الحكم"، مؤكدًا بذلك موقفه القاطع بأن جماعة الإخوان لن تشارك في الحياة السياسية خلال فترة وجوده في السلطة[12].
علاوة على ذلك، أشار السيسي إلى أن الإخوان قادرون على العودة خلال ثلاث إلى خمس سنوات "إذا سُمح لهم أن يكونوا جزءًا من الدولة"، ما يعني أن الجماعة تُعدّ فزاعة حقيقية بالنسبة له، إذ يدرك تمامًا أنه في حال عادت الجماعة للمشاركة في الحياة السياسية فإنها ستسعى لاستعادة سيطرتها كما حدث في الانتخابات التي فازوا فيها بما يقارب ثلاثة أرباع مقاعد البرلمان في 2012، وهي أول وآخر انتخابات حرة جرت منذ سيطرة العسكر على السلطة عام 1952.
في الوقت ذاته، سعت صحف الدولة والمواقع الإلكترونية التابعة للسلطة عدة مرات إلى تسريب معلومات مفادها أن قادة الإخوان قد طلبوا الصلح عقب تهديد السيسي بإعدامهم، رغم نفي المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين، محمد بديع، ذلك في تصريحاته المؤرخة 23 يوليو 2015، مؤكدًا أنه "لا مفاوضات حالية مع السيسي منذ أحداث يوليو 2013، وأن جميع المحاولات لتسوية الصراع بين الطرفين توقفت منذ أكثر من عامين".
وشدد مرشد الإخوان -في تصريحات نقلها أحد شباب الإخوان المحبوسين معه في سجن طرة لـموقع "عربي21" - على أن "الأخبار التي يتم تداولها بين الحين والآخر حول مبادرات سياسية للمصالحة ليست إلا وهم يروجه النظام الحاكم لخداع معارضي الانقلاب وإحداث وقيعة بين شباب الإخوان وقادتهم."
وأوضح الشاب -الذي رفض ذكر اسمه لاعتبارات أمنية- أنه قابل مرشد الإخوان يوم 15 يوليو 2015، مع مجموعة أخرى من المتهمين، وأن "بديع" نفى لهم بشكل قاطع وجود أي تفاوض مع النظام[13].
وفي مناسبة لاحقة، خلال فعاليات منتدى شباب العالم، بتاريخ 12 يناير 2022، كشف "السيسي" عن كواليس حوار دار بينه وبين السفيرة الأمريكية في مصر عام 2011، عقب ثورة 25 يناير. أوضح السيسي أن السفيرة كانت تسأله: "مين اللي هيحكم مصر؟"، فأجاب السيسي: "الإخوان هيحكموا ثم يمشوا"، مما يُفهم منه اعتراف ضمني بأنه اتبع أسلوبًا استراتيجيًا تمثل في فتح المجال للإخوان في الانتخابات ثم إفشال حكمهم والانقلاب عليهم.
4- لا حوار مع الإخوان
في يوليو 2022، وضمن سياسة إقصاء الإخوان، قال عبد الفتاح السيسي، إن الحوار الوطني يتضمن مشاركة كل المفكرين والمثقفين والنقابات والقوى السياسية باستثناء "واحد"، في إشارة إلى جماعة الإخوان، دون ذكرها بالاسم.
قال: "البعض قد يتساءل عن السبب في ذلك، زاعما: "في 3 يوليو (عام 2013) آخر حاجة عملتها اقترحت عليهم (الإخوان) تصور يمكن أن يؤدي إلى تجاوز الأزمة وهو إجراء انتخابات رئاسية".
وتابع: "الشعب خرج في الشوارع، يبقى نديله فرصة يقول رأيه، وأنتوا بتقولوا إنكم عندكم مؤيدين ودي مؤامرة.. طيب خلونا نكتشف المؤامرة دي ونعمل انتخابات رئاسية مبكرة .. لو الشعب اختاركم يبقى خلاص ولو لأ تبقوا جزء من العملية السياسية"
إلا أن السيسي ادعى "أن هذا الفصيل اختار القتال في يوليو 2013، على خوض التجربة السياسية بشكل سلمي"، في إشارة إلى رفض الإخوان للانقلاب على الرئيس الراحل محمد مرسي.
وأكمل: "ده محلصش واختاروا إنهم يقتلوا.. وده معناه إن الأرضية المشتركة اللي بتجمعنا في الحوار والنقاش مش موجودة لإني باتكلم في حوار وأنت بتتكلم في قتل"!
واستطرد: "لو أنت كنت نجحت بطريقتك لو كنت أقولك تعالى نعمل حوار مكنتش هتسمع مني وتقولي أنا هاخدها بالقوة رغم إنه كان هياخد أشلاء"
وختم قائلًا: "اللي أنا بقوله ده موجود في مضبطة القوات المسلحة في يناير 2014 قبل ما نناقش فكرة أسيب الجيش والا لأ"
وعن تجربة جماعة الإخوان في الحكم زعم: "كانوا شاطرين في حاجة واحدة بس وهي الانتخابات لأنهم مدربين عليها على مدار 70 سنة بيعرفوا يعملوا جماعات لصالحهم"
وأضاف: "قلت لهم انتم عندكم مراكز دراسات علشان تعرفوا يعني إيه دولة وتحدياتها.. فضلوا سنة ونصف خلصوا على مقومات الدولة"
وزعم أن: الإخوان مكانوش عارفين يعني إيه دولة، كان كل همهم تحريك الشارع وصناعة أزمات، مضيفا: "35 مليون مواطن طلعوا (في 30 يونيو) دي حاجة إلهية رحمة بالبلد"
وأكد ضمنا أنه وراء مسلسل "الاختيار"، قائلا: كنا حريصين في مسلسل الاختيار إلقاء الضوء على أشياء كانت لا ترى"!!
وقد أصدر الإخوان المسلمون بيانا قالوا فيه إن "قائد الانقلاب يكرر خطابه المتداعي في ذكرى الجريمة النكراء، فيقلب الحقائق ويردد نفس المزاعم التي سوّق بها انقلابه ويكذبها الواقع المعاش جملة وتفصيلا، مؤكدا بذلك أنه ماض في سياسته التي لا تقيم لحياة المصريين وزنا، وأنه غير جاد فيما طرحه من مزاعم حول حوار وطني يشمل الجميع"[14].
خلاصات:
لم يكن تحول الخطاب السياسي والإعلامي لقائد الانقلاب في مصر، عبدالفتاح السيسي، من مرحلة الثورة إلى الانقلاب مجرد تغيير لفظي، بل انعكس بعمق على الأطر الاستراتيجية والعسكرية والسياسية للدولة، فقد اعتمد "السيسي" على تغيير الأوصاف والمصطلحات لتبرير التدخل العسكري والعمليات القمعية، مع توظيف وسائل الحرب النفسية والإعلام المكثف لتوجيه الرأي العام وشطره إلى نصفين.
و شهدت مرحلة ما بعد 3 يوليو 2013 إعادة تشكيل جذرية للمشهد السياسي والإعلامي، حيث تم استغلال حادث تفجير مديرية أمن الدقهلية كحجة لتصنيف جماعة الإخوان كجماعة إرهابية وتطبيق إجراءات استثنائية ضدها.
كما اتسم الخطاب السياسي للسيسي بتناقضات واضحة في موقفه من الجماعة، حيث تذبذب بين إظهارها كجزء من الشعب وبين استخدامها كذريعة لتبرير سياسات قمعية.
ومن جانب آخر، ركز "السيسي" على استعداء النفوذ الغربي، والأمريكي بشكل خاص، وبناء جبهة إعلامية مضادة، وقدم تصريحات تهدف إلى تشويه صورة الرئيس مرسي وجماعة الإخوان وتهديد الجماعة بشكل مباشر، كمحاولة منهجية لترسيخ الحكم الديكتاتوري.
وظهر التأثير الواضح للعوامل الخارجية، الذي ارتكز على مصالح استراتيجية وعلاقات شخصية، مما ساهم في دعم الانقلاب وتشكيل النظام السياسي الجديد على حساب المبادئ الديمقراطية.
توصيات:
في ظل الخطاب الإعلامي التحريضي الذي تبناه السيسي ضد جماعة الإخوان المسلمين، فإن الرد الإعلامي من الجماعة يجب أن يكون احترافياً، عقلانياً، ويعتمد على أسس موضوعية تخاطب الداخل والخارج بفاعلية. وفيما يلي بعض التوصيات لصياغة خطاب إعلامي مهني:
أولاً: المبادئ العامة للخطاب الإعلامي:
- التأكيد على مبادئ الجماعة في السلمية، الديمقراطية، ورفض العنف بكل أشكاله.
- تقديم ردود موضوعية تعتمد على الأدلة والوقائع بدلاً من الشعارات والتعبئة العاطفية.
- تفنيد الادعاءات الموجهة ضد الجماعة بأسلوب هادئ ومبني على حقائق موثقة.
- تجنب استخدام لغة التخوين أو التصعيد في مواجهة الأطراف المختلفة، والتركيز على الحوار والحقائق.
- تقديم محتوى يناسب الجمهور المصري، مع إصدار مواد إعلامية موجهة للرأي العام الغربي لشرح الموقف بموضوعية.
ثانياً: الاستراتيجية الإعلامية المقترحة:
- إبراز التناقضات في خطاب السيسي والسلطة:
- عرض أمثلة على ازدواجية معايير الخطاب الرسمي، مثل الحديث عن الاستقرار في ظل استمرار الاعتقالات والتضييقات.
- الاستشهاد بتصريحات متناقضة للسيسي ومسؤولي الدولة لإظهار عدم اتساق الرواية الرسمية.
- إنتاج محتوى مرئي ومكتوب:
- إنتاج مقاطع فيديو قصيرة بأسلوب وثائقي تكشف التلاعب الإعلامي في الخطاب الرسمي.
- إعداد مقالات تحليلية وتقارير حقوقية تفند ادعاءات الإعلام الرسمي وتقدم رؤية بديلة.
- توظيف الإعلام البديل ووسائل التواصل الاجتماعي:
- تعزيز النشاط على منصات التواصل الاجتماعي لكسر احتكار السلطة للإعلام التقليدي.
- توظيف شخصيات إعلامية مستقلة لنقل الرواية بعيداً عن الرؤية الحزبية.
- تسليط الضوء على الانتهاكات الحقوقية:
- التركيز على القضايا الحقوقية والانتهاكات ضد المعارضين، وربط ذلك بالخطاب الرسمي التحريضي.
- التعاون مع منظمات حقوقية دولية لتوثيق ونشر هذه الانتهاكات.
- طرح رؤية سياسية بديلة:
- تقديم رؤية واضحة حول كيفية تحقيق الاستقرار والعدالة في مصر بعيداً عن خطاب السلطة التحريضي.
- الانفتاح على القوى السياسية المختلفة وتقديم خطاب يوحد أطياف المعارضة بدلاً من التقوقع الحزبي.
ثالثاً: أساليب المواجهة الإعلامية:
- تفكيك الادعاءات الكاذبة من خلال تحليل منطقي وتقديم أدلة مضادة.
- عدم الانجرار إلى أسلوب الهجوم الشخصي أو ردود الأفعال غير المدروسة.
- الدفع بشخصيات إعلامية مستقلة أو أكاديميين لتقديم وجهة نظر مهنية بعيداً عن الطابع الحزبي المباشر.
ختاماً: يجب أن يستند الخطاب الإعلامي إلى المهنية والموضوعية والهدوء، مع تقديم رؤية مستقبلية شاملة لمصر بدلاً من الاكتفاء بالرد على الخطاب التحريضي للسلطة.
---------------------
المصادر:
[1] محمد البلتاجي يتحدث عن طلب السيسي انسحاب الثوار من الميدان في 2011 كبديل عن مجازر متوقعة، حساب "المصريين" على يوتيوب، فيديو بتاريخ 10 يونيو 2012م، شوهد في 20 يوليو 2024م https://2h.ae/XJWA
[2] قتيل في اشتباكات بين أنصار ومعارضي مرسي و"الحرية والعدالة" يحمل قادة المعارضة المسؤولية، موقع فرنسا 24، 28 يونيو 2013م، شوهد في 21 يوليو 2024م، https://2h.ae/qEbt
[3] حرق مقرين لـ «الحرية والعدالة» ودعوات لثورة ضد «الإخوان» 24 الجاري، موقع جريدة الراي الكويتية، 5 أغسطس 2012م، شوهد في 21 يوليو 2024م، https://2h.ae/EYin
[4] Steven A. Cook, Egypt’s Sisi Rules by Fear—and Is Ruled by It، foreign policy، AUGUST 30, 2023, Viewed on July 21, 2024 ، https://2h.ae/UpUU
[5] يحيى حامد، من داخل القصر ... كنت شاهدا (١) السيسي وحذاء الرئيس مرسي، فيسبوك، 10 أبريل 2022م، https://2h.ae/koNd
[6] Excerpts from Washington Post interview with Egyptian Gen. Abdel Fatah al-Sissi
[7] "ملحدون في مصر يحرفون سورة (يس) ويستبدلونها بـ(السيسي)، موقع "كل الأردن"، 19 سبتمبر 2013، https://2u.pw/eZjtdIYd
[8] حديث الرئيس عبد الفتاح السيسى حديث لمجلة " دير شبيجل " الالمانية، الهيئة العامة للاستعلامات- مصر، 8 فبراير 2015، https://www.sis.gov.eg/Story/102035?lang=ar
[9] نص بيان القوات المسلحة المصرية 1 يوليو2013، الجزيرة نت، 2 يوليو 2013م، https://2h.ae/ojhx
[10] "أخطر مفاجآت تفجير «مديرية أمن الدقهلية»: الانتحاري عمل مرشدا لـ«الأمن الوطني»، "المصري اليوم، 20 ديسمبر 2014، https://www.almasryalyoum.com/news/details/606677
[11] عبد الفتاح السيسي: "الإخوان جزء من الشعب المصري... ومصر كبيرة وتتسع للجميع" موقع "فرنسا 24"، 4 نوفمبر 2015، https://2h.ae/lJoZ
[12] "السيسي: لا دور للإخوان في مصر ما دمت موجودا في الحكم"، موقع "بى بى سى"، 13 أكتوبر 2018، https://www.bbc.com/arabic/middleeast-45848839
[13] "مرشد الإخوان: لا مفاوضات مع السيسي منذ يوليو 2013"، "عربي 21"، 23 يوليو 2015، https://2h.ae/aTlx
[14] " تسع سنوات أظلم فيها وجه الحياة في مصر"، موقع "لإلإإخوان أونلاين"، الأحد 3 يوليو 2022، https://2h.ae/AfrE