شيوخ السلطان والتفاخر بالترف.. من حق الأمة أن تعرف الحقائق!

الأحد - 11 مايو 2025

- أ. د. سليمان صالح
( أستاذ الإعلام بجامعة القاهرة )

د. سليمان صالح


من أهم النتائج الإيجابية للمحن أنها تسهم في زيادة وعي الأمم؛ فتعرف علماءها الذين يدافعون عن الحق، ويرفضون الباطل، ويتحدون الطغيان، فتختار الأمة قياداتها من العلماء الأحرار الذين يرفضون الذل والوهن والهوان.. لذلك تكون المحن ضرورية لتبدأ الأمة مرحلة جديدة في كفاحها.

وسأروي لكم قصة يمكن أن تسهم في تفسير المواقف وكشف الحقائق؛ فقد كنت رئيسًا للجنة الإعلام في المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية عام 2013، التي كانت تضم نخبة من الإعلاميين والعلماء، وكانت اللجنة تعمل على بناء مشروع متكامل للدعوة الإسلامية يقوم به المجلس، وكنا نعبر عن آمال الشعب المصري في أن يسهم المجلس في بناء مجتمع المعرفة وإعداد الدعاة، وبناء قوة مصر الناعمة في إفريقيا وآسيا.

عندما يتفاخر العالم بالترف!

فوجئت بصدور قرار ضم خالد الجندي إلى اللجنة، لكننا رحبنا به، وأعطيناه كل الفرص لطرح اقتراحاته التي أيدها أعضاء اللجنة، ومنها إنشاء محطة إذاعية للدعوة الإسلامية، وكان الرجل يحاول أن يتقرب منا، ويعبر عن إعجابه بالرئيس محمد مرسي وبالإخوان المسلمين.

في يونيو 2013، بدأت الأحداث تتصاعد، وأدرك الجميع نذر الخطر، وفي نهاية اجتماع اللجنة أمسك الرجل بيدي، واتجه نحو الباب الخارجي للمجلس، وكان يحدثني عن مشروع محطة الإذاعة، لكنه فجأة وبدون مقدمات قال: "إنه يمتلك قصرًا في سويسرا، لو أنك رأيته لقلت ماذا يمكن أن يكون في الجنة!"

قال ذلك البيان المهم وكنا قد وصلنا إلى الباب، حيث كانت تنتظره سيارة سوداء فاخرة لا يركبها إلا المترفون من الذين يظنون أنهم سادة، وأنهم أعلى من الآخرين، ثم أطلق يدي وركب السيارة بعد أن فتح له السائق الباب.

وصلت الرسالة يا شيخ، ولكن!

ولأنني صحفي وباحث تعلمت أن أحلل المضمون وأكتشف المعاني؛ فقد أدركت كل ما يريد الشيخ أن يقوله في رسالته، وأنه يتفاخر بالترف الذي يعيش فيه، وأنه لكي أنعم بذلك الترف يجب أن أسير في طريقه؛ فهو الطريق الصحيح الذي يراه العقلاء الواقعيون الذين يريدون أن ينعموا بطيبات الحياة الدنيا.

لكن الرسالة وصلت إلى بدوي يعتقد أن الحياة في خيمة في الصحراء بعزة وكرامة أفضل من الحياة في قصره الذي يرى أنه أفضل من قصور الجنة، ويؤمن أن أول خطوة في الجنة أفضل من قصره وسيارته الفاخرة.

أثارت الرسالة غضبي؛ فأجدادي كانوا جنود الإسلام الذين رفضوا الترف، وضحوا بأنفسهم لرفع راية الإسلام، وإخراج العباد من العبودية لغير الله، وفتحوا مصر فحرروا المصريين من العبودية للرومان، وأقاموا العدل.

ليتني صرخت!

عندما عدت إلى البيت شعرت بالندم الشديد لأنني لم أمسك بتلابيبه، وأصرخ في وجهه: "ليس لمثلي يقال هذا الكلام؛ فكل ما تملكه لا يساوي في نظري شيئًا، وطريقي يختلف تمامًا عن طريقك، وأجدادي الأنصار عادوا برسول الله إلى مدينتهم راضين، ولم يحصلوا على شيء من الغنائم، في حين عاد المؤلفة قلوبهم بالشاة والبعير."

ليتني صرخت: "إن قصرك وسيارتك وكل ما في الدنيا من ترف لا يساوي في نظري موقفًا أعلن فيه كلمة حق، وأتحدى الطاغوت عبادةً لله، وأحلم بالجنة وفيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر؛ وفيها رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي نحبه ونتبعه ونعادي كل من يعاديه."

وجاءت المحنة لتكشف شيوخ السلطان!

كان ذلك آخر اجتماع للجنة، فتصاعدت الأحداث حتى قتل الانقلاب العسكري آمالنا في الحرية والديمقراطية، وعاش الكثير من علماء مصر في سجون الطاغوت، مثل أخي صلاح الدين سلطان، الأمين العام للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، الذي أنتج أكثر من 70 كتابًا تشكل مرجعًا لكل باحث في الشريعة الإسلامية، وهو عالم يستحق التكريم، وتشتد حاجة الأمة لعلمه وإخلاصه ومواهبه في الدعوة.

 وعاش الكثير من علماء مصر في المنافي يعانون شظف العيش ومرارة الغربة والبعد عن الأهل والديار، وظهر شيوخ السلطان ليستعرضوا مواهبهم في النفاق، وإلهاء الجماهير بالهجوم على ثوابت الدين. ويشكل خالد الجندي، الذي يتفاخر بالترف، نموذجًا للشيوخ الذين باعوا دينهم بدنياهم.

هل تريدون دليلاً؟!

إن كنت تريد دليلًا على صحة ما أقول، فعليك أن تتحمل عذاب متابعة برامج هؤلاء الشيوخ في قنوات التلفزيون التي تسيطر عليها السلطة، وسأكتفي هنا بالإشارة إلى اعتراف خالد الجندي بأنه من شيوخ السلطان؛ ففي برنامجه "لعلهم يفقهون" قال نصًا:

"إحنا شيوخ السلطان، ومش عيب أنك تبقى شيخ السلطان.. اللي ميبقاش شيخ السلطان حياته قطران، وآخرته قطران، والله هو من اختار السلطان، وهو من أمرنا بطاعة السلطان، وهذا مذكور في القرآن."

أعتذر عن استخدام اللهجة العامية؛ فهذا كلامه نقلته نصًا لأنه يوضح المستوى العلمي، فكيف يمكن أن نأخذ علمًا ممن لا يستطيع أن يتحدث اللغة العربية الفصحى؟ لكن ماذا يعني بقوله: "إن من لا يكون من شيوخ السلطان تكون حياته قطران"؟ هل يعني بذلك أنه يفقد فرص الحصول على الترف الذي يوفره الطغاة للمنافقين الذين يغدقون عليهم ثمنًا لنفاقهم؟

هل تصدق أن الانحناء مباح؟!

لكن هل يمكن أن تصدق أن خالد الجندي دعا في سبتمبر 2023 إلى الانحناء للسيسي تقديرًا لإنجازاته في تطوير البنية التحتية، مبررًا ذلك بأن الانحناء لله ولغير الله؛ فالانحناء -كما يقول- نوعان: انحناء تعظيم وانحناء إكرام واحترام.

وقد استخدمت السلطة هذا الشيخ لإلهاء الناس؛ فأنكر عذاب القبر، ونفى أن يكون الحجاب فريضة، ودعا لحذف بعض المصطلحات مثل "الكافر" و"المرتد" لأنها لم تعد تصلح للعصر الحديث، ودعا إلى علمنة الخطاب الإسلامي، وصرح بأن التشريعات في القرآن كانت لزمن معين، وأن الطلاق الشفهي لا يُعتد به شرعًا، وأفتى بأن من يفطر في رمضان دون عذر عليه قضاء اليوم فقط، وليس الكفارة.

لذلك تحتاج الأمة الآن إلى شجاعة العلماء الحقيقيين ليدافعوا عن ثوابت الإسلام، وحقوق المسلمين في الحصول على المعرفة الصحيحة عن الدين؛ فالحرب على الإسلام تشتد وتمتد في الزمان والمكان، والسلطات تستخدم الترف لإغراء الشيوخ لإلهاء الناس وتشويه الحقائق.

لذلك يجب أن ينتفض علماء الإسلام ليقدموا المعرفة الإسلامية للبشرية، ويدافعوا عن الإسلام بتوفير المعرفة للجماهير؛ فالمعرفة أساس المستقبل.