صراع الدبيبة وباشاغا يضع ليبيا على مفترق طرق
الثلاثاء - 8 مارس 2022
- الشعب الليبى يرفض أى توافق للدخول في مرحلة انتقالية ثالثة ويتبنى انتخابات شاملة حاسمة
- القاهرة سعت لعرقلة تحركات تركية بشأن الملف الليبي.. وأنقرة تؤكد أن الخيار للشعب
إنسان للإعلام- خاص
أثار تكليف فتحى باشاغا بتشكيل الحكومة المقبلة، من قبل برلمان طبرق ، الكثير من الشكوك والتساؤلات ، فبينما يرى البعض أن ليبيا عادت فعليا لمربع الصفر، وأن الممكن اندلاع نزاع عسكرى بين الطرفين، أو عودة حصار طرابلس، يرى آخرون أن هذه التخوفات لامحل لها، لأن الصراع بين الدبيبة وباشاغا هو صراع من نوع آخر، وأنه صراع على السلطة لأن الطرفين المتصارعين من وجهاء مدينة مصراتة وهى من مدن الغرب.
زد على ذلك أن الخلاف بين الطرفين هو صراع سياسى قانونى بامتياز، فبينما يرى الدبيبة أن المجلس الرئاسي هو صاحب الاختصاص في تغيير الحكومة، وليس مجلس النواب، يرى باشاغا أنه تكليفه تم من الجسم التشريعى الأهم فى البلاد، وأن حكومة الدبيبة انتهت بانتهاء موعد الفترة الانتقالية.
لكن هذا لاينفى إمكانية أن يتحول الصراع السياسى إلى صراع عسكرى قبلى لاتحمد عقباه، فهناك بعض المظاهر التى تدعو للقلق، إذ تحركت أرتال من المركبات العسكرية مدججة بالأسلحة من عدة مدن، من بينها الزنتان والزاوية، نحو طرابلس لدعم باشاغا، وخرجت فى الوقت نفسه قوة عسكرية كبيرة من مصراتة نحو طرابلس لدعم الدبيبة.
بصفة عامة يمكن القول إن الأجواء الإقليمية والدولية لا تشير إلى احتمال اندلاع صراع مسلح في ليبيا، حيث تحاول القوى الدولية احتواء الصراع بين الطرفين من خلال وساطات لتقريب وجهات النظر للخروج بأقل الخسائر، خاصة وأن حكومة الديببة حقتت بعض النجاحات فى ملفات مهمة مثل السعى لتوحيد شطرى البنك المركزى الليبى، والاهتمام بالشباب وتوفير السيولة وزيادة ملحوظة فى الرواتب.
وبالتالى لم تعد الانتخابات أولوية الأطراف المتصارعة في ليبيا، بل حسم مسألة الشرعية، فكل من الدبيبة وباشاغا، يؤكد أحقيته في رئاسة الحكومة، لكنّ أياً منهما لا يملك جميع الأوراق التي تمكنه من إزاحة الآخر.
القاهرة تلعب دورا غير نزيه:
هناك تسريبات بأن لقاء عُقد بالقاهرة جمع حفتر وعقيلة صالح وباشاغا بتاريخ 28أغسطس 2021 برعاية مصرية، وقد توصل الثلاثة إلى اتفاق يقضى بإفشال الانتخابات، إذا لم يفز بها أحد الثلاثى المجتمعين بالقاهرة.
وربما أدرك هؤلاء أن اللعبة الانتخابية ستنحصر بين اثنين هما عبد الحميد الدبيبة وسيف الإسلام القذافي، فسعو إلى تقويض العملية الانتخابية.
وبدا ذلك واضحاً فى الصراع بين حكومة الدبيبة التى ترى إجراء الانتخابات في غضون أربعة أشهر، بينما يرى مجلس النواب وضع جدول زمني لمدة 14 شهرا لإجراء العملية الانتخابية.
وعلى فرض نجاح فرصة فرض حكومة باشاغا، فإنها ستواجه صعوبات كثيرة تتمثل فى أن القوى الدولية إلى الآن لم تغير نظرتها تجاه حكومة الدبيبة على الأقل ولو ظاهرياً، وبالتالى ستواجه حكومة باشاغ بعدم الاعتراف الدولى والذى سيجعلها تولد ميتة .
كما أنها ستكون حكومة ذات قدرات مالية محدودة، لأن الدبيبة بنى مشروعه السياسي والاقتصادي على استكمال إقامة المشاريع المعطلة وإطلاق مشاريع تنموية جديدة، وهو وحده الذى يمتلك ملف المشروعات المعطلة منذ حكم القذافى .
لذلك سعت القاهرة لعرقلة تحركات تركية بشأن الملف الليبي، في محاولة لتصدر المشهد هناك، فقد قدمت تركيا مبادرة للوساطة بين رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة، ورئيس الحكومة المكلف من مجلس النواب فتحي باشاغا، وذلك في الوقت الذي كشف فيه الدبيبة عن خطة تقوم على إجراء انتخابات برلمانية قبل 24 يونيو المقبل.
ووجهت تركيا الدعوة لكل من باشاغا والدبيبة لزيارة أنقرة، وعقد لقاء بينهما للتوصل إلى حل لأزمة الانقسام الراهنة، ومنع الاحتراب مجدداً في ليبيا، لكن باشاغا أبلغ الأمر للمسؤولين في مصر، فنصحه المصريون بعدم تلبية الدعوة التركية، وبأن يؤكد أن أي حل لا بد أن يكون من داخل ليبيا، فمصر لا تزال تتخوف من تحالف الدبيبة مع تركيا، لذلك شاركت بقوة في الترتيب لاختيار باشاغا لرئاسة حكومة جديدة، لأنها تعول كثيراً على تلك الخطوة لاستعادة توازن الأدوار في ليبيا، في ظل التحالف بين الدبيبة وأنقرة.
وكان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، أكد مؤخراً، أن علاقة بلاده بكل من الدبيبة وباشاغا طيبة.
وقال أردوغان في تصريحات صحافية: “علاقاتنا مع فتحي باشاغا جيدة. من ناحية أخرى العلاقات طيبة أيضاً مع الدبيبة”، لكن “الأمر المهم هو من سيختاره الشعب الليبي وكيف”.
وتابع أردوغان: “نريد إجراء الانتخابات في ليبيا، بحيث يختار الليبيون شكل الحكومة التي يريدونها ويرغبون بها”.
وكانت بعض المصادر كشفت عن لقاء تم بين عقيلة صالح وعباس كامل رئيس المخابرات المصرية على هامش أعمال المؤتمر الرابع للبرلمان العربي ورؤساء المجالس والبرلمانات العربية، الذي عقد بمقر جامعة الدول العربية.
وطلب عقيلة صالح من عباس كامل ضرورة فتح قنوات اتصال مباشرة بين المسؤولين في مصر وستيفانى وليامز، لاستيعاب موقفها بالإضافة إلى ضرورة استغلال الموقف الأميركي الرامي إلى دعم بقاء المستشارة الأممية في موقعها، وتغيير قناعات الإدارة الأميركية بشأن رفضها للخطوات الأخيرة، على اعتبار أن “الإدارة الأميركية لا تزال متمسكة بما يمكن تسميته بمسار الدبيبة، خاصة أنه يضمن إجراء انتخابات قريباً، على عكس التصور الخاص بحكومة الاستقرار، الذي يرجئ المسار الانتخابي لفترة أطول”.
انجازات حكومة الدبيبة:
فى الوقت الذى ينظر فيه البعض لحكومة الدبيبة بأنها فشلت فى تحقيق أية نجاحات خلال الفترة الانتقالية، يرى البعض الآخر بأن حكومة الدبيبة، حققت الكثير من الانجازات لأن الحكومات السابقة لم تلتفت، للنواحي الاقتصادية والاجتماعية، مثل تيسير عملية الزواج للشباب بإعطائهم منحا خاصة، وإصلاح شبكات الكهرباء والمياه، واستكمال فتح الطريق الساحلي الرابط بين أجزاء ليبيا.
ويحاول الدبيبة الاستفادة من تحسن العلاقات بين تركيا والإمارات، من أجل وضع خريطة طريق انتقالية مُتفق عليها، تحظى بقبول دولي واسع من الجهات الفاعلة في الصراع الليبي.
ولكن الدبيبة أدرك أخيرا أنه يواجه أمواجا عاتية فكلف وزيرة العدل حليمة عبدالرحمن باقتراح قانون انتخابات جديد، يشمل احتمال إجراء استفتاء على الدستور، وهى خطوة مهمة للغاية لأنه لابد من إيجاد قانون للانتخابات ينظم استحقاقات المرحلة الانتقالية الحالية ويمنع من حدوث فراغ قد يولد مراحل انتقالية متتالية؛ حتى لا يقع الليبيون فيما وقع فيه التوانسة، حين انتخبوا في 2011 هيأة تأسيسية، ولم يختاروا برلمانا، فأهدروا ثلاث سنوات في مناكفات عقيمة أضعفت عملية الانتقال وأوصلت البلاد إلى ماهى فيه الآن .
التفاف عقيلة صالح على الاتفاقات:
كما يقولون، حقق حقق عقيلة صالح مكاسب سياسية لم تحققها القوة العسكرية، فقد نجح من خلال تصويت مجلس النواب لصالح فتحى باشاغا من الإلتفاف على اتفاق جنيف/ تونس، الذي جاء بقائمة الثنائي الدبيبة/المنفي، على حساب قائمة الثنائي عقيلة صالح/فتحي باشاغا، لذلك حقق الثلاثى الطامح للسلطة فى ليبيا من خلال خلال مجلس النواب ما لم يُحققوه في جنيف.
وبذلك سيضمن عقيلة صالح بداية مرحلة انتقالية ثالثة والبقاء على رأس البرلمان، فى ظل حكومة باشاغا التى ستؤجل الانتخابات إلى تاريخ غير مسمى، لكي تبقى حكومته في السلطة أطول وقت ممكن، بالرغم من أن مجلس النواب وافق على جدول زمني جديد للانتقال مدته 14 شهرًا.
هل يمكن الوصول لتسوية مرضية للطرفين؟
يبدو أن مستشارة الأمين العام للأمم المتحدة "ستيفاني وليامز" أعطت ضمانات للدبيبة لدى اجتماعها معه، بأن يبقى في الصورة، للبحث عن تسوية مرضية. وهناك احتمالات تُتداول بين الليبيين ببقاء الدبيبة على رأس الحكومة، مع تقاسم الوزارات مع باشاغا، الذي يمكن أن يتولى وزارة استراتيجية، أويعود مجددا لوزارة الداخلية لترتيب الأوضاع الداخلية ليضمن ولاء الكتائب حالما أجريت انتخابات فى البلاد.
لكن حتى هذا السيناريو قد يكون غير قابل للتطبيق على الأرض؛ نظرا لتنافس الطرفين على الاستحواذ، بالإضافة إلى الخلاف حول وزارة الدفاع، التي يطالب بها حفتر، لكن سكان المنطقة الغربية لا يقبلون بوجود حفتر الذى اقتحم طرابلس وكاد أن يسقطها لولا التدخل التركى الذى أحبط مخطط سقوط العاصمة طرابلس بيد حفتر.
المجلس الرئاسى والدور الغائب:
لاحظ بعض المراقبين غياب أصوات رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي ونائبيه عبدالله اللافي وموسى الكوني، فلم تُسمع حتى الآن، وخاصة منذ تفجر أزمة حكومة باشاغا، مع أنهم يجب أن يتحملو المسؤولية في إيجاد تسوية تجنب البلاد شبح الحرب الأهلية، خاصة وأن اتفاق جنيف منح المجلس الرئاسى حق تعيين حكومة جديدة.
ورغم ما قاله المنفي في كلمة له بمناسبة الذكرى الحادية عشرة لـ«ثورة 2011»: «قد نختلف حول تقييم الماضي، لكن يجب أن نتفق حول استحقاقات المستقبل». لكنه لم يتطوع بذكر هذه الاستحقاقات، وماذا يترتب عليها من تداعيات.
اكتفى رئيس المجلس الرئاسى، محمد المنفي، بالقيام بوساطة بين رئيس حكومة الوحدة الوطنية الموقتة عبدالحميد الدبيبة، ووزير الداخلية السابق فتحي باشاغا، المكلف من قبل مجلس النواب، لإيجاد مخرج من المأزق السياسي والدستوري الذي يلوح في الأفق، وأبلغ الطرفين المتصارعين، رفضه رؤية ليبيا تدخل في صراع جديد بسبب التنافس الشخصي معتبراً أن التنافس «ضار، ويجب تسويته في مدينة مصراتة"، التي ينحدر منها المتنافسان، وتضم بعضًا من أقوى الميليشيات عتادًا.
وحث الطرفين على «التفاوض مباشرة مع بعضهما البعض حتى لا تنجر ليبيا مجددًا إلى الحرب»، ملحًا على حقيقة أنه «مهما كان رئيس الحكومة الذي سيتم اختياره بشكل نهائي، فإنه سيتعين عليه ممارسة ولايته في إطار اتفاقات جنيف»، وبالتالي التوجه نحو إجراء انتخابات رئاسية وتشريعية ناجحة بقدر الإمكان.
من يملك منح الشرعية للطرفين المتصارعين؟
يبدو فى الظاهر أن الخلاف بين المتصارعين خلاف دستوري، ومع ذلك لايمكن حسم الخلاف بينهما قضائياً. إذا من يملك "منح الشرعية" ويحسم الصراع المتأجج بين الدبيبة وباشاغا؟
هناك عدة عناصر مهمة لايمكن إغفالها بإمكانها مجتمعة أن تحسم الصراع لصالح أحد الطرفين.
1-مجلس النواب في طبرق
لاشك أن مجلس النواب حسم موقفه مبكرا لانحيازه لصالح دعم باشاغا، بعد أن صوّت المجلس بالإجماع لصالحه بعد انسحاب المنافس الوحيد لباشاغا من سباق رئاسة الحكومة خالد البيباص، والذي نفى فيما بعد انسحابه، مما أثار الشكوك حول شرعية انتخاب باشاغا.
2-المجلس الأعلى للدولة الليبية
رغم أن موقف أعضاء المجلس الأعلى للدولة متبايناً تجاه هذه المسألة، فمن جهة توافقت لجنة شكلها المجلس من رؤساء اللجان مع خارطة الطريق التابعة لمجلس النواب، تتضمن تعديل الإعلان الدستوري بالتزامن مع اختيار رئيس حكومة جديد، ومنح 52 عضواً في المجلس "تزكيتهم" لباشاغا "بشكل منفرد"، ونفي عدد من أعضاء مجلس الدولة عقد أي جلسة لهم لمناقشة مسألة "التزكيات".
وحتى الجلسة التي كانت مقررة السبت 12 فبراير 2022، أُجلت "لأسباب أمنية"، ما يعكس حالة الاحتقان في المنطقة الغربية بسبب موقف مجلس الدولة من تغيير السلطة التنفيذية، لكن المجلس أعلن الخميس 24 فبراير 2022، رفض التعديل الدستوري وتغيير السلطة التنفيذية اللذين أقرهما مجلس النواب بطبرق.
وقال المجلس فى بيان له، عقب نحو أسبوعين على تصويت مجلس نواب طبرق: "رغم مطالبة المجلس الأعلى للدولة من مجلس النواب بمزيد من الوقت لعرض التعديل الدستوري على المجلس قبل التصويت عليه، إلا أن مجلس النواب لم يتفاعل مع المطالبة، وقام بالتصويت عليه".، موضحا أنه "بذلك يكون هذا التعديل قد شابه العديد من المخالفات الإجرائية".
كما اقترح البيان "تشكيلَ لجنة مشتَركة بين مجلسي الأعلى والنواب تتولى إعداد قاعدة دستورية خلال مدة أقصاها 31 مارس المقبل".، "على أن يتم بعدها التوافق على قوانين انتخابية بين المجلسين، وأن يتم تأجيل أي تعديل في السلطة التنفيذية إلى حين استكمال وضع القاعدة الدستورية والقوانين الانتخابية".
وأكد المجلس الأعلى أن المقترح يأتي "بهدف الوصول إلى توافق حقيقي، واستجابة إلى المطالب الشعبية بضرورة إجراء انتخابات بشكل عاجل"، حسب البيان ذاته. وبذلك يكون باشاغا فقد أحد الأوراق المهمة فى حسم الصراع مع الدبيبة.
3- المجتمع الدولي وأطراف الصراع الخارجية
حتى الآن ما زالت الأمم المتحدة تعترف بشرعية حكومة الدبيبة، وهذا ما أعلنه المتحدث باسمها ستيفان دوجاريك. كما أن الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، في تعليقه على اختيار مجلس النواب لباشاغا رئيساً للحكومة، دعا "جميع الأطراف والمؤسسات إلى مواصلة ضمان أن يتم اتخاذ مثل هذه القرارات الحاسمة بطريقة شفافة وتوافقية".
هذه الجملة تعكس تشكيكاً أممياً في الطريقة التي تم بها اختيار باشاغا رئيساً للحكومة "بالإجماع"، رغم أن العديد من النواب انتقدوا طريقة إجراء التصويت الذي تم دون "إجماع"، ناهيك عن حرمان البيباص من الترشح.
غوتيريش ذكّر مجلسي النواب والدولة أيضاً "بالهدف الأساسي المتمثل في إجراء الانتخابات الوطنية في أسرع وقت"، في إشارة إلى أن تغيير الحكومة والدخول في مرحلة انتقالية من 14 شهراً على الأقل، لا يخدم مسار إجراء الانتخابات.
بدورها أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية دعمها موقف غوتيريش، ما يعطي الدبيبة شرعيةً دولية، وقدرةً على تمثيل البلاد في الخارج، وتعيين السفراء والبعثات الدبلوماسية.
والأهم من ذلك فإن الاعتراف الدولي يمكّن حكومة الدبيبة من صرف ميزانية الدولة بالبنك المركزي، والتي يمثل النفط مصدرها الرئيسي. وأي حكومة بدون اعتراف دولي ستلقى نفس مصير حكومة الإنقاذ السابقة في طرابلس والحكومة المؤقتة في مدينة البيضاء.
وباستثناء مصر، التي أعلنت اعترافها بحكومة باشاغا، فإن بقية دول العالم ما زالت ترقب الوضع عن كثب، ولم تتخذ موقفاً حاسماً، خاصة وأن الأزمة الأوكرانية تحبس أنفاس العالم وتغطي على جميع ملفات المنطقة.
4- الكتائب العسكرية
لا يعني دخول باشاغا إلى طرابلس بسلام دلالة على أن الوضع قد لا يصل إلى مواجهة عسكرية في طرابلس. فنفس المشهد حدث في 31 مارس 2016، عندما دخل رئيس المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق فائز السراج إلى طرابلس دون قتال، رغم تهديد حكومة الغويل، المسيطرة على العاصمة باعتقاله. وبقي الوضع على هذا الحال حتى وقوع اشتباكات بين قوات الطرفين في طرابلس عام 2017.
في هذا السياق، فإن زعم الدبيبة بتعرضه لمحاولة اغتيال ليلة 9 فبراير، قد لا ينبئ بأن العاصمة ستحتمل رئيسيْ حكومتين لفترة طويلة، وإن كان التداخل القبلي والعشائري يمنع انحدار طرابلس ومصراتة إلى قتال شامل، فباشاغا يحظى بدعم بعض الكتائب الموزعة على مناطق مختلفة من الغرب الليبي بما فيها طرابلس، خاصة بعد البيان الذي صدر من قادة 25 كتيبة، أشيع بأن أختام بعضها مزورة، فيما تقف قوات حفتر في الشرق خلف باشاغا لدعمه في أي مواجهات محتملة.
ويخشى قادة الكتائب العسكرية في الغرب أن يستغل خليفة حفتر باشاغا كـ"حصان طروادة" لدخول العاصمة بعد أخفق في اقتحامها عنوة في 2019.
أما الدبيبة فلا يزال يملك ولاء الفريق محمد الحداد، قائد أركان الجيش الليبي، وعدد من الكتائب المناهضة لحفتر، أو حتى تلك التي سبق لها وأن اصطدمت بباشاغا عندما كان وزيراً للداخلية (2018-2021)، خاصة كتائب طرابلس.
والآن قد يبدو الوضع العسكري شبه متوازنٍ في المنطقة الغربية، لكن قوات حفتر في الشرق ترجح كفة باشاغا.
5- الشعب الذي قد يغير المعادلة
باستثناء الدعم الدولي "المؤقت"، فإن موازين القوى الأخرى ليست في صالح الدبيبة، الذي خسر بالكامل دعم المنطقة الشرقية ممثلة في مجلس النواب وقوات حفتر، وليس مستبعداً أن ينسحب قريباً وزراء ومسؤولو المنطقة الشرقية من حكومة الوحدة.
أما عسكرياً، فدخول باشاغا إلى طرابلس، بشكل علني واستعراضي في أول يوم بعد اختياره رئيساً للحكومة، يكشف عن اختلال ميزان القوى العسكري لصالح الدبيبة.
ويبقى عامل الشعب الليبى من أهم العناصر على الإطلاق لحسم هذا الصراع ، فيبدو أن الشعب الليبى يقبل بحكومة الدبيبة على مافيها لأنها من وجهة نظر شرائح كبيرة من الشعب حققت بعض النجاحات على الأرض فى ملفات السيولة والرواتب ومنح الشباب والسعى لتوحيد البنك المركزى والشروع فى تدشين بعض المشروعات المتوقفة منذ زمن القذافى.
وبالفعل بدأ الشعب الليبي فى التحرك في الميادين وشبكات التواصل الاجتماعي، رافضاً أى توافق للدخول في مرحلة انتقالية ثالثة، مما يُبقى الأجسام القائمة في المشهد لعام ونصف أو أكثر، وتأجيل موعد الانتخابات.
وقد تمثل حراك الشعب الليبى فى خروج أعيان وقادة مصراتة ببيان رافض لتشكيل حكومة جديدة، وكذلك أعيان مدينة الزاوية والمظاهرات التي شهدتها طرابلس ومصراتة والداعمة للدبيبة، تمهّد لغضب شعبي قد يتصاعد في الأيام المقبلة. ومن الممكن أن يتكرر سيناريو مظاهرات 2013، التي أجبرت المؤتمر الوطني العام على إجراء انتخابات برلمانية في 2014، جاءت بالبرلمان الحالي.
أوضاع الغرب الليبى:
على الصعيد المحلي انقسمت المنطقة الغربية قسمين متوازنين، قسم مع الدبيبة ويدعمهم عدد معقول جدا من الكتائب المسلحة بما فيها أكبر 3 ألوية بمصراتة، وقسم مع باشاغا والّذي بدوره يدعمه عدد ليس بالقليل من الكتائب المسلحة، لكن الحقيقة أن عددا لا بأس من الكتائب التي معه الآن هي التي كان يحاربها أيام كونه وزيرا للداخلية وهي مليشيات الاعتمادات المصرفية ومليشيات التهريب بأنواعه.
على مستوى صف الثورة فإن الأغلبية تدعم الدبيبة، ليس حبا لشخصه أو لعمله فقد تضمنت حكومة الدبيبة مستويات فساد عالية، ولكن لمدى خطورة مشروع باشاغا كونه مبهما خاليا من أي ملامح، باستثناء كونه رئيس الحكومة، وعدم وجود أي ضمانات حقيقية على أي مستوى من المستويات عامل آخر يدعم مخاوف صف الثورة من هذه الحكومة.
المعضلة في هذه الحكومة تكمن في أنه لا أحد يشكك في إخلاص فتحي باشاغا للثورة والمشروع الوطني، لكن الجميع يشك بأنه قد تم استغفاله من مدخل هوسه بالسلطة والذي هو ظاهر للقاصي والداني، ما جعله يرتمى بأحضان مصر وحفتر وعقيلة صالح أعداء الأمس.
على مستوى العامة فإن سوادهم الأعظم، سواء في المنطقة الشرقية أو الغربية هم مع الدبيبة، لأسباب بسيطة و معلومة، منها توفير السيولة المصرفية وزيادة المرتّبات وتنفيذ بعض المشاريع الصغرى سريعة الظهور والمفعول وأخيرا الآمال المعقودة على الدبيبة في إجراء انتخابات وإنهاء المراحل الانتقالية.
كما أن التحرك الأخير من قبل المجلسين لإسقاط الدبيبة جعل الناس تضيق ذرعا بالمجالس النيابية، وتكنّ لها البغض. وليس من المبالغة أن المجلس الأعلى للدولة مثلا لم يستطع عقد جلسة منذ 12 فبراير الماضى لدواع أمنيّة، كما ذكر ذلك خالد المشرى فى تصريحات له. بالتالي فإن الناس ترغب بالفعل في إنهاء الاجسام النيابية، لكن المتناول باليد فقط مجلس الدولة لأن مجلس النواب يحميه حفتر ولا مصلحة للمنطقة الغربية في إسقاط المجلس الّذي يمثلها ليتفرّد مجلس النواب في المنطقة الشرقية بالقرار، لذلك ينشد الليبيون انتخابات تنهي الجسمين بأي ثمن.
على الصعيد الدولي: لم تصرّح إلا مصر وروسيا بدعمهما لحكومة (باشاغا) والاشادة بمجلس النواب، مع أن فرنسا تشاطرهما الدعم على استحياء تقريبا، في حين تشدد الولايات المتحدة والمملكة المتحدة على الحفاظ على الاستقرار وعدم الاحتكام للقوة.
ويبدو الموقف القطري رافض لحكومة باشاغا، لكنه لا يصرح بذلك، والموقف التركي لا يختلف كثيرا عن موقف صف الثورة الرافض لعبث الدبيبة، لكنه يرى أن حكومة باشاغا مبهمة الملامح خالية الضمانات، أشدّ خطرا على المشروع الوطني والمصالح التركية في ليبيا.
الخلاصة أن باشاغا لا يعدو كونه- من وجهة نظر البعض- أداة في مشروع حفتر لتشتيت الجبهة الغربية، ومن ثم تبدو خسارته لقاعدته الشعبية صحيحة، لكنّه يعتقد أنّه تعلّم من الدبيبة كيفية كسب القاعدة الجماهيرية بسرعة فائقة، لذلك لا يولي الأمر أهمّيّة كبيرة الآن.
كما أن ستيفاني وليامز كانت قدمت تقريرا للأمم المتحدة ذكرت فيه خطورة الخطوة التي اتخذها البرلمان على حالة الاستقرار النسبي في البلاد.
بالمقابل، كانت وليامز قد أشادت بالتوافق بين لجنتي النواب والدولة للتعديلات الدستورية. والشاهد من هذا أن ستيفاني تحافظ على التواصل مع الجميع دون إظهار التحيز لضمان الحفاظ على القدرة على التأثير على الحكومة المنتصرة في هذا الصراع.