السودان .. عندما يغيب الإعلام عن المجاعة الأكثر فتكا!
الثلاثاء - 30 سبتمبر 2025
حنان عطية
بينما يبدو العالم منشغلاً بأزمات خطيرة ومفصلية في غزة وأوكرانيا، تغيب عدسات الإعلام وأقلام الصحافة عن واحدة من أسوأ الكوارث الإنسانية التي تقع أحداثها في السودان، تلك الحرب الضروس على مدار أكثر من عامين، والتي أوصلت السكان إلى حد المجاعة وانتشار الأوبئة والأمراض التي لا تستثني حيًّا ولا تذر وطنًا، إضافة إلى حالات النزوح والتهجير والقتل العشوائي الذي راح ضحيته عشرات الآلاف.
قد يضفي الإعلام أحيانًا عمقًا على الأحداث، بينما يظل الحدث في السودان أكثر مأساوية من عدسات التصوير التي تغيب عن المشهد ولا تلتقط إلا النذر اليسير منه، ليخفي وراءه كثيرًا من الأخبار والأرقام التي لا تعبر إلا عن القليل من الواقع على الأرض، ولا تنقل سوى قشور من الحقيقة.
ورغم شح التناول وعدم وجود إمكانية لعرض الواقع بسبب ظروف القتال الذي لا تحكمه أخلاقيات الحرب وفق القانون الدولي، فإننا لا نملك إلا التعامل مع ما يتوفر من حقائق حاليًا حول المجاعة، حيث تؤكد تقارير وكالات الأمم المتحدة والمنظمات الدولية حدوث المجاعة فعليًا على نطاق واسع، مطلقة صفارات الإنذار عاليًا.
فبعد أكثر من عامين من الحرب الدامية، في عالم مثقل بالصراعات الجيوسياسية والأزمات الدولية، يغيب عن بال الكثير منا أن مأساة إنسانية مروعة تتكشف أبعادها في السودان، ليقف هذا البلد العتيق مثخنًا بالجراح متعبًا على حافة الهاوية، مهددةً المجاعة حياة الملايين من سكانه المدنيين العزل.
الأرقام التي يتم التقاطها من الواقع وتضمنتها تقارير الأمم المتحدة تعبر عن واقع صادم إلى حد يصعب استيعابه، إذ وحسب ما ورد في التقارير يعاني نحو 25 مليون شخص، أي أكثر من نصف سكان السودان، من انعدام الأمن الغذائي الحاد، وهو رقم يمثل تحديًا إنسانيًا هائلًا، إذ يواجه هؤلاء صعوبة في الحصول على الطعام الكافي لتلبية احتياجاتهم الأساسية.
ووفقًا للتقارير، يعيش 8 ملايين شخص على حافة المجاعة في المرحلة الخامسة من التصنيف الدولي، وهو أعلى مستوى لانعدام الأمن الغذائي، ما يعني أنهم في خطر محدق قد يفتك بهم الجوع إلى حد الموت في أي لحظة ما لم يتم التدخل العاجل.
أما النزوح، فقد شمل 10.2 مليون شخص نزحوا داخل البلاد أو تحولوا إلى لاجئين في دول الجوار، في واحدة من أكبر أزمات النزوح واللجوء في العالم، حيث يعيش معظمهم في ظروف بائسة دون مأوى أو غذاء. ويضاف إلى ذلك معاناة 4 ملايين شخص يتوزعون بين الأطفال والنساء الحوامل والمرضعات، حيث يعانون من سوء التغذية الحاد، وهي فئات هشّة مهددة بخطر مضاعف على حياتها وصحتها.
وتشير التقديرات إلى أن 770 ألف طفل دون سن الخامسة يعانون هذا العام من سوء التغذية الحاد الوخيم، وهو ما يعرض حياتهم للموت المباشر إن لم يتم إنقاذهم فورًا، يضاف إلى ذلك الانهيار الزراعي، إذ شهد الإنتاج الوطني من الحبوب انخفاضًا بنسبة 46% منذ بداية المعركة، ما جعل السودان يفقد قدرته على إطعام سكانه.
الأكثر تضررًا
المأساة لا تنتشر بشكل متساوٍ في جميع أنحاء البلاد، بل تتركز في المناطق التي تتعرض لمواجهات عنيفة، خاصة في شمال دارفور، وتحديدًا في مدينة الفاشر ومخيم زمزم، حيث تم الإعلان رسميًا عن وجود مجاعة يعيش مأساتها مئات الآلاف في حصار شبه كامل وانقطاع شبه تام للإمدادات الغذائية والدوائية، ويقدّر عدد النازحين في المنطقة ما بين نصف مليون إلى ثمانمئة ألف شخص.
أما بقية ولايات دارفور الأربع، فقد تحولت هي الأخرى إلى بؤر ساخنة للأزمة، حيث أبلغ أكثر من 70% من الأسر الحضرية في شمال وشرق دارفور عن معاناتها من انعدام الأمن الغذائي الشديد إلى المتوسط.
وفي كردفان شمالًا وجنوبًا، يُصنّف الوضع في المرحلة الرابعة، أي مرحلة الطوارئ التي تسبق المجاعة مباشرة، في ظل قتال عنيف أدى إلى نزوح واسع وتعطيل أغلب الأنشطة الزراعية.
وحتى العاصمة الخرطوم لم تسلم، حيث عاد جانب من سكانها ليجدوها وقد دمرتها المواجهات العنيفة وقضت على كثير من معالم الحياة والبنية التحتية من أسواق ومستشفيات ومصانع غذائية، مما ساهم في ارتفاع معدلات الجوع، ووصلت المعاناة إلى حد وصف أطفالها بأنهم أصبحوا "جلدًا على عظم".
وفي ولاية الجزيرة، التي كانت تُعرف تقليديًا بسلة غذاء السودان، فقد دمّر القتال إنتاجها الزراعي وأدى إلى نزوح واسع، فتحولت من مصدر غذاء وطني إلى منطقة منكوبة، في تحول دراماتيكي يعكس عمق الكارثة.
ولا يقف الأمر عند حدود الجوع فقط، بل يتفاقم بانتشار الأمراض، فقد حذرت منظمة الصحة العالمية من أن الجوع يهيئ الظروف المثالية لانتشار الأوبئة، وبالفعل تم تسجيل نحو 100,000 إصابة بالكوليرا منذ يوليو 2024، كما تفشى المرض في مخيمات اللاجئين في تشاد حيث سُجلت 264 إصابة و12 وفاة في مخيم واحد.
ومع دمار 70 إلى 80% من المنشآت الصحية أو توقفها عن العمل في كثير من الولايات، ونقص الأدوية والمعدات والكوادر، أصبحت أمراض بسيطة مثل الإسهال وغيرها أمراضًا قاتلة لأجسام أنهكها الجوع.
مجاعة شاملة
وما يحوّل الأزمة إلى مجاعة شاملة هو جملة من العوائق التي يصفها المراقبون بأنها "من صنع الإنسان". فالقوافل الإنسانية تتعرض للنهب بشكل متكرر، حيث تم قتل وإصابة أكثر من 110 من عمال الإغاثة منذ بداية الصراع. وفي ظل وجود قيود بيروقراطية وعسكرية على حركة المساعدات، وصلت إلى حد منع الاستيراد عبر معابر فعالة مثل معبر أضري مع تشاد لأشهر متواصلة. يضاف إلى ذلك تدمير الطرق والجسور، ما جعل إيصال المساعدات مهمة شبه مستحيلة في كثير من المناطق.
وعلى صعيد التمويل، تعاني الاستجابة الإنسانية من عجز خطير، فخطة الاستجابة للأمم المتحدة لعام 2024 لم تحصل سوى على 41% من التمويل المطلوب، بينما أعلن برنامج الأغذية العالمي عن انخفاض تمويل المانحين لعام 2025 بنسبة 40% مقارنة بالعام الماضي.
ففي مصر انقطعت المساعدات عن 85 ألف لاجئ سوداني من أصل 1.5 مليون، أي بانخفاض 36% عمّا كان متاحًا قبل أشهر، وفي تشاد يواجه 850 ألف لاجئ خطر توقف المساعدات في الأشهر المقبلة إذا استمر هذا العجز.
الأرقام تتحدث عن نفسها، والصور الصادمة القادمة من السودان تروي قصة معاناة لا يمكن تجاهلها، فالكارثة ليست مجرد شأن داخلي، بل اختبار حقيقي للضمير الإنساني العالمي ومقياس لمدى الالتزام بالمبادئ الإنسانية.
ومع أن الوقت ينفد، فإن الاستجابة الدولية لا تزال بعيدة جدًا عن حجم المأساة، وما يحتاجه السودان اليوم ليس فقط المساعدات الغذائية الطارئة، بل تمويلًا كاملًا للاستجابة الإنسانية، وآليات فعّالة تضمن وصول المساعدات إلى مستحقيها، إضافة إلى دعم دبلوماسي لوقف هذه الحرب، وهو ما تقع مسؤوليته على عاتق المجتمع الدولي، دون أن يرفع المسؤولية عن الدول العربية عمومًا ودول الجوار خاصة بحكم القرب الجغرافي والمصير المشترك.
فمصر، التي تشترك مع السودان في التاريخ والحدود ومياه النيل، لا تستطيع الاكتفاء بدور المتفرج، إذ أن دورها الطبيعي أن تقود تحركًا إقليميًا عاجلًا يضع القضية على رأس أولويات الأمن القومي العربي والإفريقي، وأن تضغط دبلوماسيًا لتأمين ممرات إنسانية عبر حدودها، إضافة إلى ضرورة السعي الجاد لإنهاء الحرب.
أما جامعة الدول العربية، التي اكتفت طويلًا ببيانات الشجب والتنديد، فهي أمام فرصة حقيقية لتثبت أن وجودها ليس شكليًا – كما هي قناعة الشعوب – حيث يمكنها أن تطلق مبادرة إغاثة عربية موحدة، تجمع بين التمويل والتوزيع والضغط السياسي، وأن تنسق بين الدول الأعضاء لإرسال مساعدات عاجلة جوًا وبرًا.
وبالنسبة إلى الدول الخليجية، فإنها تواجه اختبارًا أخلاقيًا حادًا، فكيف لدول أغدقت تريليونات الدولارات على الولايات المتحدة في صفقات سياسية وعسكرية، أن تعجز اليوم عن تخصيص جزء يسير من ثرواتها لإنقاذ بلد عربي جار يعاني من الموت جوعًا؟! المطلوب منها ليس فقط المال، بل استخدام ثقلها المالي والدبلوماسي لتأمين ودعم أوسع من المجتمع الدولي.
أما دول الجوار الإفريقية – مثل تشاد، جنوب السودان، وإثيوبيا – فهي معنية مباشرة بالأزمة بحكم استقبالها ملايين اللاجئين، بما يوجب عليها تسهيل مرور القوافل الإنسانية، وتنسيق الجهود عبر الاتحاد الإفريقي لمنع تمدد الأزمة إقليميًا وتحويلها إلى تهديد شامل للاستقرار في المنطقة.
والمجتمع الدولي مطالب بتحمل مسؤوليته، ليس عبر الوعود الفارغة، بل عبر توفير التمويل الكامل لخطة الاستجابة الإنسانية للأمم المتحدة، وتفعيل آليات المحاسبة ضد من يستخدمون الجوع كسلاح حرب.
إن السودان يغرق اليوم في واحدة من أسوأ الكوارث الإنسانية في القرن الحادي والعشرين، والسؤال الجوهري هو: هل سيقف العالم، ومعه العرب، متفرجين حتى تتحول المأساة إلى كارثة مكتملة الأركان، أم سيتحركون لإنقاذ ملايين السودانيين الذين يقفون على حافة الهاوية؟