محفوظ نحناح.. مدرسة الوسطية والاعتدال والتسامح

الثلاثاء - 20 أبريل 2021

قال عنه تلامذته: "إنه الكلمة التي سبقت زمانها"، واعتبروه "الإسقاط الحقيقي والواقعي لنظرية التغيير التي كان يؤمن بها الإمام الشهيد المجدد حسن البنا"، كما اعتبروا أن "منهجية التغيير عنده لم تكن مجتزأة، بل شملت كل الجوانب التطبيقية لفكر الإمام البنا"، وهو ما جعل الشيخ محمد أحمد الراشد يهديه  كتابه "أصول الإفتاء والاجتهاد التطبيقي في فقه الدعوة الإسلامية"، ويعتبره "ناحت النظرية التغييرية على الواقع في صناعة الحياة"

إنه الشيخ محفوظ نحناح، العالم المجدد، مؤسس ورئيس حركة مجتمع السلم (حمس) الجزائرية، الذي كان يرفع دائما شعار " الوسطية والاعتدال"، لأنه كان يؤمن أنه بدونهما لايتحقق أمان ولا استقرار، كما كان يردد دائما: "أنا من الذين يؤمنون بضرورة احترام رأي الآخر حتى وإن خالفني، لكن أن يتحول الرأي إلى قمع وتحريض وتمرد ومحاولة فرض رأي الأقلية على الأغلبية، فهذا مما لا يقول به عاقل"

كان من أنصار توحيد الجهود ورص الصفوف والتغاضي عن سلبيات الآخرين والارتفاع إلى مستوى الأمة الواحدة.

وكان حريصا جدا على إبقاء مفهوم الدولة وبناء مؤسساتها، وكأنه يرى ما تعانيه البلاد العربية الآن من انقسام واقتتال، فقد كان يقول: "رأينا في بعض المناطق العربية والإسلامية أنه بضياع الدولة دخلت البلاد في أوضاع سيئة بالغة الخطورة"، وكأنه يشهد بعين الحاضر ما آلت إليه الأوضاع في بلادنا الآن.

كان من أنصار الوحدة العربية الإسلامية في مواجهة التهديدات الخارجية، ومن الرافضين للانصياع للنفوذ الأمريكي، ومن بين ما قال في هذا الاتجاه: "لماذا لا تستطيع النظم العربية أو الجهات الرسمية أن تصوغ هي الأخرى معادلة صياغة حكيمة؛ بحيث لا تقبل أن تكون مدجنة أو تخضع للأهواء والأمزجة، بل للمصلحة العليا للأوطان؟"، وكأنه - رحمه الله- كان ينظر من الأفق لحالة "التدجين" التي بلغت مداها اليوم.

وكان من آرائه السديدة أن "النهضة أو التخلف ليست حالة سياسيه فقط، بقدر ماهي حالة مجتمعية عامة وأن الشعب هو الذي يحقق النهضة لا النظام السياسي"، كما كان يؤمن بأن " حركية الإسلام تسمح له بالبقاء والنماء لملامسته الفطرة والواقع".

وفوق سعة أفقه ونظرته الثاقبة، كانت مناقبه الشخصية وتواضعه الجم يؤثران توا في من يراه لأول مرة، ويضفيان ملمحا سلوكيا دعويا على تلامذته ومحبيه.

إنه أحد رجالات دعوة "الإخوان المسلمين" فكرا وعملا، وأحد أبنائها البارين، نعرض فيما يلي جانبا من سيرته الذاتية لتكون نبراسا للأجيال الجديدة، وضوءا كاشفا لما تقدمه دعوة الإخوان المسلمين من رجال وتضحيات لرفعة الأوطان، ومثل وقيم رفيعة لبنى البشر عز وجودها في هذا الزمان.

مولده ونشأته:

ولد محفوظ نحناح في 27 يناير 1942م بمدينة البليدة (الورود) التي تبعد 50 كيلومترا جنوب الجزائر العاصمة، حيث نشأ في أسرة محافظة(1).

وكانت نشأته في أحضان القرآن الكريم، وفي أحضان اللغة العربية، على يد علماء أفاضل وأساتذة مبجلين(2)

تعليمه:

التحق نحناح في سن مبكرة بالمدرسة الإصلاحية، التي أنشأتها الحركة الوطنية التي كانت تمثل رمز المقاومة والدفاع عن الذات العربية الإسلامية للجزائر أمام سياسة "الفرنسة".

وأكمل نحناح مراحل التعليم الابتدائية والثانوية والجامعية في الجزائر، ثم اشتغل في حقل الدعوة الإسلامية لأكثر من 30 عاما في الوقت الذي كان يتنامى فيه المد الاشتراكي ونشر الثقافة الفرنسية، وكان نحناح من أشد معارضي التوجه الماركسي والفرانكفوني، كما شارك في ريعان شبابه في ثورة التحرير ضد الاحتلال الفرنسي.

وشغل نحناح مدير مركز التعريب بالجامعة المركزية بالجزائر العاصمة(3).

مناقبه الشخصية:

شهد للشيخ محبوه وتلامذته بالصلاح والتقوى والتواضع والورع...ولندع أحدهم وهو "عامر ولد ساعد سعود"، يعبر عن ذلك فيقول(4):

إنها شهادتي أمام الله تبارك وتعالى أن هذا الرجل كان على مرتبة كبيرة من الولاية والصلاح، ملتزمًا بالإسلام في نُسُكه الخاص، وفي معاملاته اليومية مع الناس في حدود الشرع والأخلاق لا يتعدّاها ولا يتساهل فيها، فطوال فترة صحبتي له، ورغم ما فيها من ضغوطات نفسية ومادية ووطنية ودولية، وعلى ما فيها من انشغالات وصوارف، لم يتخلّف هذا الرجل عن أداء صلاة الجماعة في وقتها إلا نادرًا، ومهما كانت الأحوال والظروف، وسواء كنا في المقر المركزي للحركة أو في المطار أو في الأسفار، أو في اللقاءات الرسمية المختلفة تجده حريصًا على الركوع والسجود كأنه يناجي ربه سبحانه بمشاورات في القضايا الشاغلة؛ لذلك وجدتُه مداومًا على النوافل وقراءة القرآن لدرجة أنني- وفي كثير من الأحيان- عندما أدخل عليه مكتبه صباحًا وأجده منغمسًا في ورده متأملاً في مصحفه، أخرج في هدوء ولا أسلم عليه؛ حتى لا أقطع عليه خلوته، وكم كان- رحمه الله تعالى- يتأذى عندما يقاطعه بعض الإخوان ليظفروا بالسلام عليه، وكان كثيرًا ما يجمعنا كلما أتيحت لنا الفرصة لنشهد بحضرته ختمة من ختماته للقرآن الكريم؛ حيث كان من عادته أن يجمع أعوانه في المكتب ويختمه بالدعاء، ويطلب من كل واحد منهم أن يدعو بما شاء فيتحوّل مجلسه ومكتبه ذاك إلى محراب خاشع وفرصة روحية نادرة تخشع فيها النفوس، وتبكي العيون وتتعانق الأرواح، ونحن نبكي من حوله ونتضرع إلى الله دعاءً واستغفارًا حتى يشعر الواحد منا- وهو خارج من تلك الجلسات السَّنية- بطاقة روحية وصفاء نفسي، لو استمرت معه لاشتم روائح الجنة، وهو في هذه الحياة الدنيا.

ولم تفته- رحمه الله تعالى- العمرة في شهر رمضان إلا نادرًا، وشهود موسم الحج كل سنة، حيث يتزود بالزاد الروحي الأكبر، وهي فرصته ليتواصل مع أمثاله من العلماء والدعاة والمشايخ الذين كان يقدرهم كثيرًا ويقدرونه أكثر.

أخلاق النبل العالية

يقول عامر سعود: "كانت فيه أخلاق النبل العالية، بحيث وجدته يتمثّل ويطبّق قوله تعالى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ﴾ (6-الحجرات)، فالرجل رغم أنه كثير الإنصات إلاّ أنه لم يكن يتأثر بما ينقله له الإخوان عن بعضهم البعض من أخبار ومعلومات، صحيحة كانت أو مغلوطة، إلاّ بعد التبيُّن والتأكد، بل أحيانًا تكون انتقاداتُ الإخوان لاذعةً وتحاملُهم شديدًا، فتجد الشيخ يقرِّب البعض ويكلفهم بأعمال وملفات لا تخطر ببال أولئك المتحاملين.

 ولم تكن هذه الكتلة من الأخلاق مقصورة في تعامله مع أصحابه فقط، بل كانت ديدنه حتى مع خصومه السياسيين، فكان الرجل يتورع عن أن يتجاوز الحدود الشرعية في المعاملة معهم.

 وبالجملة كان رحمه الله تعالى متشبعًا بأخلاق الإسلام؛ إذ تجده دائمًا يبادرك بالتحية والسلام، ويقابلك بالبشاشة والابتسام، حتى في أحلك الظروف، وكان متسامحًا جدًّا مع الآخر

معاملاته مع رجالات الدولة

أما معاملاته مع رجالات الدولة والمسئولين فكان يطبعها توازن بين الاحترام الواجب إسداؤه لهم وبين التعبير عن آرائه ومواقفه، والمحافظة على استقلاليته تجاههم، فلا تجده يتجه نحوهم بكلام جارح أو خارج عن حدود اللياقة، في الوقت الذي يتوجّه فيه إلى أفكارهم بالتمحيص والنقد، بأسلوب مملوء بالمزاح والمرح؛ بحيث يفهم الطرف الآخر مقصود الشيخ دون أن يجد ما يجرِّمه عليه، ومن القصص الطريفة في هذا المجال أنه- وعلى هامش جنازة المرحوم شريف مساعدية- التقي واحدًا من كبار المؤسسة العسكرية، الذي كان مجرد ذكره يخيف الكثيرين من رجالات الطبقة السياسية، فتبادلا الابتسامة والتحية، وتفنن الشيخ في عبارات التحية وضمنها جملة طريفة قال فيها لصاحبه "واش يا حضرات كاش صناديق طائرة"، وكان يقصد الغمز إلى حالات التزوير والتلاعب بصناديق الانتخابات.

وإذا ما وافق مسئول أو تحالف معه لا ينخرط فيه بالشكل الذي يجعله تابعًا لا إرادة له، ولا يغدر ولا يتنصل من شيء التزم به، بل كان دائمًا يحافظ على توازنه وينبِّه إلى الأخطاء والهفوات، وذلك حبًّا في من وافقه أو تحالف معه؛ لأن "كثرة الوفاق نفاق" كما يقال، وهذا ما كان يدفع بحلفائه إلى المزيد من تقديره واحترمه، وهو ما جعل من تصريحاته ومواقفه مؤشرات ومحددات تمكن رجال الصحافة والمتتبعون للشأن الجزائري والمحللون من بناء استنتاجاتهم وقراءاتهم، فقد أصبح الرجل من خلال ذلك مرجعًا إذا تكلم أو صرَّح، لا بد أن يُدرس كلامه وتصريحه في أكثر من جهة داخل الوطن وخارجه، على عكس الكثير ممن قد يتكلم، أو يكتب ويقول بمناسبة وبغير مناسبة.

خلق الاستماع إلى الآخر

وقد تميز الرجل بخلق راقٍ جدًّا وهو خلق الاستماع إلى الآخر، حتى يُخيل إلى كل من يتحدث معه أنه من أهم الناس إليه، وكان يستمع لمخاطبيه مهما كان الموضوع ومهما كان أسلوب المتكلم، ومن الغريب أنه كان يستمع إلى معلومات أو أخبار لمرات عديدة، وكلما كلّمه أحد فيها يشعره أنه هو أول من حدثه في ذلك، فلا يقاطعه ولا يعلِّق عليه إلا بما يقتضيه الحال.. إن هذا الخلق كان يحفز الجميع على نقل ما يملك من معطيات أو معلومات إلى الشيخ الذي يقدره ويستمع إليه باحترام، فخلق الاستماع يحتاج إلى طاقة روحية ونفسية قوية وإلى سعة صدر وطول بال، تعتبر من نعم الله النادرة على الإنسان في هذه الحياة.

كما تميز الرجل بخلق الحفاظ على الأسرار، فلا تجده يحدث بما يسمع إلا نادرًا، وإذا ذكر معلومة يندر أن يذكر مصدرها أو صاحبها، وعندما تكلِّمه في أي أمر تشعر بالحماية الكاملة لأن سرك مصان ومحفوظ؛ مما جعله محل ثقة الكثير من الرجالات في مواقع غاية في الحساسية، ولعل الرجل مات وارتحل وأُقبرت معه الكثير من الأسرار التي لا يعرفها أقرب المقربين إليه، وإذا ما أسرَّ لأحد مقرَّبيه بسرٍّ من الأسرار فلا يكون ذلك إلا بناءً على عمل يتوقف عليه، وبعد أن يتأكد تمامًا من توثيق صاحبه.

40 عاما في حقل الدعوة

اشتغل محفوظ نحناح في حقل الدعوة الإسلامية لأكثر من 40 عاما، في مقابل المد الثوري الاشتراكي وفي مواجهة نشر الثقافة الفرنسية، حيث بدأ نشاطه الدعوي سنة 1960م بمساجد العاصمة، وكان يُدرِّس في الحلقات كتاب (ظلام من الغرب) للشيخ محمد الغزالي.

وعمل نحناح على تأسيس رابطة الدعوة الإسلامية رغبة منه في إيجاد مرجعية دينية للجزائريين تحفظ الشعب والبلد من كل انحراف،  ثم أسس جمعية الإرشاد والإصلاح هو ورفيقه الشيخ محمد بوسليماني الذي اغتالته الجماعة المسلحة سنة 1994.

خصائص فكره الدعوي:

في التمهيد للملتقى الدولي السادس للشيخ محفوظ نحناح المنعقد في العاصمة الجزائر في يونيو 2009، كتب فاروق ابو سراج الذهب، الباحث في العلوم السياسية و العلاقات الدولية، وأحد أبناء حركة مجتمع السلم، مقالا كشف فيه خصائص الفكر الدعوي للشيخ "نحناح" -رحمه الله- حيث قال(6): كان الشيخ محفوظ نحناح رحمه الله دائما ما يردد: "الحركة الواعية تنظر إلى الواقع بموضوعية، وتستعمل أدوات التغيير بوعي، وتدرك أنها أمام ألوان من النفسيات والأمزجة، والمخلفات الجاهلية، والتطلعات المستقبلية، والتحولات التاريخية والتشكيلات السياسية، فلا تتبرم ببطء سقيم الفكر، ولاتنزعج من مستعجل عديم الفقه كثير الشبهات، لأنه:

إما مستعجل يريد اللحاق بموكب التاريخ المشع قبل الأوان.

أو مستعجل يريد قطف الثمار قبل اكتمال النضج.

أو مستعجل يريد مزاحمة الأواهين والحزانى.

 أو مستعجل يريد تحقيق مآرب شخصية آنية.

أو مستعجل يريد دفع الموكب نحو الهاوية.

أو مستعجل يريد انطلاقاً مجنحاً بدعوى الخروج من الفتور واليأس.

أو مستعجل لأمانته التي استؤمن عليها ويعمل على إفساد ذات البين ويريد السير فوق أنقاض وجماجم من قبله.

وبعض المستعجلين يضعون صيغاً تبريرية لاستعجالهم بدافع الخوف على الحركة من التميع والتصدع، ولكنك إذا أسندت إليهم أمراً كانوا أعجز من حمله، وإذا ولوا مسؤولية كانوا لها أضيع، وإذا ما استؤمنوا كانوا لها أخون، ولا ينفي هذا أن ثمة مستعجلين يريدون الخير، كما لا ينفي أن يكون هناك من يخشى أن تفوت الفرصة، وهذا لا يغير من الضرر شيئاً."

ثم يبين الشيخ رحمه الله معالم الحركة الدعوية الواعية فيقول: "الحركة الواعية هي التي تكون مفتحة العيون والآذان والعقول لكل ما حصل من أحداث، أو ما يمكن أن يحدث، وتربط النتائج بالأسباب، غير مغفلة موازين القدر الإلهي، تقع عينها على الحياة من غير تجسس، وتتابع أذنها من غير تحسس، وتعمل عقلها من غير رجم بالغيب أو سوء ظن لأن بعض الظن إثم، وكم أدى ذلك إلى مزالق شرعية، أو مهالك حركية، أو سقطات حضارية.

إننا أيها الإخوان نتمثل في هذا الظرف قول الشهيد سيد قطب رحمه الله عندما نعيش لذواتنا فحسب، تبدو لنا الحياة قصيرة ضئيلة، تبدأ من حيث بدأنا نعي، وتنتهي بانتهاء عمرنا المحدود، أما عندما نعيش لغيرنا، أي عندما نعيش لفكرة، فإن الحياة تبدو طويلة عميقة، تبدأ من حيث بدأت الإنسانية وتمتد بعد مفارقتنا لوجه هذه الأرض.  

إننا نربح أضعاف عمرنا الفردي في هذه الحالة، نربحها حقيقة لا وهما، قتصور الحياة على هذا النحو، يضاعف شعورنا بأيامنا وساعاتنا و لحظاتنا. و ليست الحياة بعد السنين، ولكنها بعداد المشاعر. وما يسميه "الواقعيون" في هذه الحالة "وهما " هو في الواقع " حقيقة " أصح من كل حقائقهم!.. لأن الحياة ليست شيئا آخر غير شعور الإنسان بالحياة. جرد أي إنسان من الشعور بحياته تجرده من الحياة ذاتها في معناها الحقيقي! ومتى أحس الإنسان شعورآ مضاعفا بحياته، فقد عاش حياة مضاعفة فعلا.

يبدو لي أن المسألة من البداهة بحيث لا تحتاج إلى جدال !...

إننا نعيش لأنفسنا حياة مضاعفة، حينما نعيش للآخرين، وبقدر ما نضاعف إحساسنا بالآخرين، نضاعف إحساسنا بحياتنا، ونضاعف هذه الحياة ذاتها في النهاية!.

بذرة الشر تهيج، ولكن بذرة الخير تثمر، إن الأولى ترتفع في الفضاء سريعآ ولكن جذورها في التربة قريبة، حتى لتحجب عن شجرة الخير النور والهواء، ولكن شجرة الخير تظل في نموها البطيء، لأن عمق جذورها في التربة يعوضها عن الدفء والهواء.

صوت الاعتدال

كان نحناح يرفض كل مظاهر العنف والإرهاب، كما يرفض الغلو في الدين، ويعتبر أي حركة عنف يؤسسها مسلمون غريبة عن الإسلام والمسلمين، وكرس مشواره الدعوي في الدفاع عن العقيدة الصحيحة وقيم الوسطية والاعتدال، ومن بين مقولاته في سنوات "العشرية السوداء" أن "خطأ الحكومة الكبير لا يعالَج بخطأ حمل السلاح، وجز الرقاب، وثقافة التدمير والحقد".

ودفعت حركته ضريبة غالية أهمها اغتيال أكثر من 500 من أنصارها، في مقدمتهم الشيخ محمد بوسليماني، كما كانت له مواقف واضحة من الاشتراكية والعلمانية والجهوية والصهيونية وقضية فلسطين وأفغانستان.

كان رحمه الله يدرك تماما أنه يؤسس لحركة تتبنى الاسلام وتعطيه صفة الشمول لمظاهر الحياة جميعا وتتخذ منه مرجعية فكرية أساسية فهي إذن بهذا المنطق حركة "قيمية"، من وظائفها الاساسية نشر القيم الاسلامية المتعلقة بالفرد والجماعة والدولة، في أشكال تطبيقية ضمن واقع لايؤمن إلا بالملموس.

مواقفه الثورية والوطنية:

كان الشيخ محفوظ نحناح -رحمه الله - ثائرا منذ صغر سنه، حيث شارك في ثورة التحرير وهو في ريعان شبابه، ومبكرا شارك في مظاهرات 1961م، كما شارك في جمع المعلومات وتوزيع المنشورات التي تصدر عن مسؤولي جيش التحرير الوطني من سنة 1960 الى سنة 1962، كما كان مناضلا في صفوف جبهة التحرير الوطني، وكان عضوا دائما فيها من سنة 1959 الى سنة الاستقلال 1962م. وشارك بقوة في صيانة الدولة الجزائرية من الإنهيار ودافع عنها في المحافل الدولية.

وواصل الشيخ جهاده في النضال من أجل المشروع الوطني الاسلامي، متخذا من الروح التي كانت تسري في رجالات الحركة الوطنية، فبادر هو ورفيق دربه الشيخ محمد بوسليماني رحمه الله الى تحرير وثيقة "مشروع التحالف الاسلامي الوطني" هذا المشروع الذي كان سباقا في الحقيقة من الناحية الفكرية ولكن الإرادات السطحية عملت على وأده في المهد(8).

لماذا سجنوه؟

حكم على الشيخ نحناح عام 1975 بالسجن لمدة 15 عاما بتهمة تدبير انقلاب ضد نظام الحكم آنذاك برئاسة (هواري بومدين)، حيث عارض فرض النظام الاشتراكي بالقوة على المجتمع الجزائري؛ باعتباره خيارا لا يتماشى ومقومات الشعب الجزائري العربي المسلم، ودعا إلى توسيع الحريات السياسية والاقتصادية.

وكان السجن فرصة ثمينة للاستزادة من العلم من جهة، والمراجعة للأطروحات الفكرية والسياسية من جهة ثانية، وقد تحول على يديه كثير من السجناء عن الانحرافات السلوكية، وأصبحوا نماذج حسنة.

وحول ظروف سجنه يقول الباحث والداعية مصطفى محمد الطحان: في عام 1975 وبعد مناقشة الميثاق الوطني تم اعتقال الشيخ محفوظ نحناح والحكم عليه 15 سنة بعد نشره بياناً بعنوان: إلى أين يا بو مدين؟

كان لابد من زيارة الحبيب في سجنه، وسافرت إلى الجزائر، ولظروف خاصة لم أستطع الوصول إلى أخينا.. المهم أني قمت بما أستطيع.

ومات بومدين، وقام استفتاء شعبي على الدستور الجديد في شباط (فبراير) 1989م، وبإقرار الدستور ألغيت حقبة كاملة من تاريخ الجزائر بكل مكوناتها الاشتراكية والعلمانية والديكتاتورية، وكان هذا التاريخ يمثل ميلاد الجمهورية الثانية ونهاية احتكار حزب جبهة التحرير الوطني للسلطة لمدة 27 سنة.

في هذه الأجواء.. استعاد المسجد دوره.. وظهرت الحركات الإسلامية قوية تهيمن  على الشارع.. وأفرج عن الشيخ محفوظ بعد قضائه 5 سنوات في السجن(9).

أول مرشح رئاسي إسلامي

ترشح الشيخ محفوظ نحناح للانتخابات الرئاسية التي جرت بالجزائر في نوفمبر 1995 وتحصل على المرتبة الثانية بأكثر من ثلاثة ملايين صوت حسب النتائج الرسمية المعلنة، وتعتبر هذه الانتخابات أول انتخاب شارك فيها الإسلاميون في العالم الإسلامي بمرشح يحمل هذا التوجه.

وعندما فاز الشيخ في انتخابات 1995 بجدارة وزورت الانتخابات بواسطة "الدولة العميقة" لصالح "الأمين زروال"، أدركت مؤسسات الدولة العميقة أن ترشحا ثانيا لـ"نحناح" بنفس الشروط السابقة سيقلب الطاولة، ومن ثم أخذت تدابير جديدة لإقصاء الشيخ من رئاسية 1999 بمنعه أساسا من الترشح، وكان نتيجة ذلك اختبار سياسي قاس، اضطرت معه "حمس" لتأييد "بوتفليقة" مما أضاع شعبيتها، وجعل كثيرون يتنكبون لها، حيث كانت نتائج الحركة سنة 2002م متواضعة ومتراجعة الى النصف، الأمر الذي تحمله الشيخ محفوظ نحناح وحدة، حين صرح وقال لموقع الجزيرة نت: انه لم يقم بالحملة الانتخابية ولم يزر كل الولايات نظرا لمرضه، بالرغم من أن قرارات الحركة كانت جماعية، ولا يتحلمها الرئيس وحده، ولكن هي جرأة وشجاعة الشيخ في تحمل المسؤولية وقيادة الحركة الى المستقبل، ولكن الأجل سبقه وانتقل إلى الرفيق الأعلى قبل أن ينفذ خطته بإعادة ترتيب بيت حركة مجتمع السلم وبيت الحركة الإسلامية عموما، من خلال ما كان يكتبه من رسائل تطورت بعد ذلك الى مشروع كتاب.

موقفه من التطبيع

سئل الشيخ محفوظ نحناح عن "التطبيع مع الكيان الصهيوني ودعاته داخل الجزائر وخارجها، وذلك ضمن حوار أجرته مجلة "المجتمع" بعد قانون الوئام الوطني، فكان رده: "مهما يكن من هذا التطبيع فإن شعوراً عربياً وطنياً ينبذه، وما يوجد حالياً في بعض المناطق العربية التي طبَّعت ليس إلا دليل على أن العرب كشعوب ترفض عملية التطبيع، حتى ولو فرضت بقوة القانون".

نهاية الرحلة

في نهايات حياته الحافلة، تدهورت الحالة الصحية للشيخ محفوظ نحناح نتيجة إصابته باللوكيميا، فخضع لعملية جراحية في الأردن قبل أن ينقل إلى باريس للعلاج، لكن الأطباء أوصوا في النهاية بنقله إلى العاصمة الجزائر، فوافته المنية - رحمه الله- مساء الخميس 19 يونيو 2003 م عن عمر يناهز 62 عاما(22). رحمه الله رحمة واسعة.

--------------

المصادر:

(1)  موقع "الجزيرة نت"، شخصيات، محفوظ نحناح، 14 محرم 1432هـ- 20 ديسمبر 2010م.

 (2) ويكيبيديا (الموسوعة الحرة)  ps://ar.wikipedia.org/wiki/%D9%85%D8%AD%D9%81%D9%88%D8%B8_%D9%86%D8%AD%D9%86%D8%A  %D8%AD

(3)  المصدر السابق.

(4)  عامر ولد ساعد سعود، "المصلح الذي عاش في سلام مع نفسه ومع غيره"، موقع إخوان أونلاين، الأربعاء 15 أبريل 2009،  http://www.ikhwanonline.com/Section/47739/Default.aspx

(6)  فاروق ابو سراج الذهب، مقال حول  الملتقى الدولي السادس للشيخ محفوظ نحناح المنعقد في العاصمة الجزائر، يونيو 2009

(8)  فاروق أبو سراج الذهب، كتاب "محفوظ نحناح  الكلمة التي سبقت زمانها"، الجزائر 2004م

(9)  مصطفى محمد الطحان، مصدر سابق.

(10) موقع "إسلام أون لاين.نت"، عن: أمير حيدر، و "أ ف ب"، 19 يونيو 2003م.