قبل ثلاثة أسابيع، كانت قمة ثلاثية مصرية عراقية أردنية فى بغداد، ولكن ما لفت انتباهي هو تأكيد السفير المصري فى بغداد وليد إسماعيل، خلال إحدى المداخلات التلفزيونية تعليقاً على الزيارة، على أن هذا التحرك ليس عداء ضد أحد وليس موجهاً ضد أحد، وهو مجرد عمل وبناء فى مصلحة الدول الثلاث.
تمارس مصر عملاً دبلوماسياً رقيقاً إلى حد كبير مع أزمة سد النهضة، لا يتناسب مع العدائية الإثيوبية فى بناء السد أو مع الممارسة الدبلوماسية الإثيوبية، وحتي مع التصريحات الاستفزازية، وكذلك مع التعنت الإثيوبي فى سير العملية التفاوضية طوال ثماني سنوات.
تأخرت مصر كثيراً عن التدخل فى الملف الليبي، وعندما دُفعت بفعل قوي إقليمية وعوامل آخري لم تصطف فى الجانب الصحيح، ضيّع هذا الاصطفاف الخاطئ الكثير من مصالح مصر وليبيا معاً. والآن تحاول التدارك والتصحيح بالمراوغة بالحيادية بين الشرق والغرب الليبي.
من هذه الأمثلة السابقة وغيرها الكثير نلاحظ فقد الدبلوماسية المصرية للأنياب والندية والقدرة على المواجهة والمبادرة، وكذلك غياب الرؤية السياسية فى السياسة الخارجية. وهناك عوامل كثيرة أفقدت الدبلوماسية المصرية أنيابها، ومنها:
- تلعب الإرادة السياسية الدولية دوراً كبيراً فى تقويض دور مصر إقليمياً ودولياً، ولا يُواجَه هذا المسار الدولي بجهود مصرية مخلصة لامتلاك إرادة حقيقية حرة تحقق مصالح مصر وشعبها. لا أحد يتمدد فى الفراغ، فإذا أردت أن تتقدم فلابد أن تُزيح الآخرين من طريقك، إلا أن تذهب للصحراء تنتظر المطر فى ليالي الصيف الصافية. والعالم الآن مزدحم باللاعبين فى السياسة الدولية، وصعود دولة كمصر بمقوماتها الجيوسياسية والاستراتيجية والديموغرافية لن يكون فى صالح قوي سياسية كثيرة.
- تتحرك الدبلوماسية المصرية مكبلة بالعديد من القيود الغليظة، منها الملف الداخلي الملئ بالانتهاكات الحقوقية والإنسانية، ومنها الملف المالي وأعباء الديون والقروض التي يري البعض أن مصر قد دخلت نفقا مظلما بسبب تراكمات الديون وخدماتها، وتلك القيود تكبل الدبلوماسية المصرية مع جبهتين، الأولى جبهة الدول المانحة للقروض والثانية جبهة الدول المدافعة عن حقوق الإنسان والحريات.
- العامل الأكثر خطورة هو غياب الرؤية الاستراتيجية الواضحة لعمل الدبلوماسية المصرية، على الرغم من عراقة تاريخ الدبلوماسية المصرية، وضخامة الجهاز الدبلوماسي المصري إلا أننا لا نري آثارا لنجاحات وإنجازات ظاهرة على الأرض، سواء على صعيد الملفات الإقليمية والدولية أو على صعيد توفير الخدمات للمصريين فى الخارج، وما الملف الليبي عنا ببعيد الذي تجسد فيه الإخفاق على صعيد الرؤية السياسية وعلى صعيد الخدمة المقدمة للمصريين المقيمين على الأراضي الليبية طوال فترة الأزمة.
الدبلوماسية المعطاءة
سلكت الدبلوماسية المصرية مسارا شاذا عن أي مسارات حفظ الحقوق وحماية المصالح، مساراً منبطحاً للغاية فى ملفات غاية فى الخطورة متعلقة بالأرض والمياة والموارد الطبيعية، فأعطت السعودية جزيرتين لم يطالب بهما أحد، وتنازلت عن بلوكات فى شرق المتوسط لليونان وقبرص واسرائيل فى أكثر المناطق ثراءً باحتياطيات الطاقة، والحقيقة أن هذا المسار المنبطح فى شرق المتوسط ممتد منذ أن تنازلت مصر عن المساحة الجنوبية من البلوكات القبرصية 4 ، 5، 6، 7، 8، 9 . والتي تنازل عنها مبارك عام 2003 خلال اتفاقية بين مصر وقبرص.
إذا أرادت مصر أن تحتل مكانة كبري فى الإقليم والعالم، وهي من أكثر الدول ملاءمة لذلك، فعليها توحيد الجبهة الداخلية وإنهاء الأزمات الحقوقية والإنسانية فى الداخل عن طريق الحوار، وتجنب الحلول الأمنية فى كل الملفات، فلا يمكن المضي قدماً للأمام خارجياً والداخل يسقط سريعا فى قاع الانفلات والكراهية والفقر والرذيلة والعنف ...... وكل هذه المظاهر وغيرها لا توحي بصلابة الجبهة الداخلية التي ترتكز عليها الدول فى أي تحرك دبلوماسي خارجي.
القيادة والأخذ بزمام المبادرة
يمكن للدبلوماسية أن تؤسس للمبادرات والمنتديات وتحرص على الحضور الفاعل فى المحافل والمنظمات الدولية، وتفعيل المنظمات الدبلوماسية كجامعة الدول العربية، والتأثير الفاعل فى كل قضية إقليمية.
وعلى الدبلوماسية المصرية أن تتسلح بالأنياب وتتسم بالندية فى الحفاظ على مصالح مصر، فالحقوق مسألة لا معني لها إلا بين القوي المتكافئة، وحتي بين القوي المتكافئة لا تُهدي المصالح وإنما تنتزع. وأن تدرك أن مهمة الدبلوماسية هي الحفاظ على حقوق مصر ومصالحها ومصالح الشعب، وليس البحث عن مصالح الدول الآخري ومنحهم إياها.