محمد بديع المرشد العام الثامن للإخوان المسلمين .. عالم متميز وداعية من الطراز الأول

الثلاثاء - 10 آغسطس 2021

لم تكن كلمته الخالدة من منصة رابعة العدوية، "سلميتنا أقوى من الرصاص"، قولا مرسلا أو مناورة مرحلية كما ادعى خصوم "الإخوان المسلمين"، بل كانت موقفا مبدئيا يعبر عن حقيقة إدارة جماعة الإخوان المسلمين للصراع مع العسكر، مهما علت جرائمهم ومهما تخطى فجرهم في الخصومة كل الحدود، فالإخوان دعاة في النهاية وليسوا قضاة.

رجل عابد زاهد، متواضع دمث الخلق، وداعية من الطراز الأول، كما وصفه من عرفوه. امتُحن أكثر من مرة بالسجن فصبر وخرج أقوى عودا وأكثر إصرارا على مواصلة طريق الدعوة، إلى أن اختاره إخوانه لمنصب المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين.

إنه الدكتور محمد بديع، القيمة والقامة، الذي عومل وقت اعتقاله فجر الثلاثاء 20 أغسطس 2013م بطريقة مهينة من قبل عسكر الانقلاب، ومنذ ذلك الحين تنسج حول الرجل قصص وحكايات ملفقة، ويتم الزج به في كل قضية من القضايا المزورة ضد الثوار، حتى بلغ عدد القضايا التى يحاكم فيها خلال 8 سنوات (2013-2021)  نحو  47 قضية  حكم في بعضها بالإعدام قبل نقض الأحكام وبلغت سنوات السجن فيها  225 عاما حتى نهاية يوليو 2021م، ومن أهمها:  أحداث مكتب الإرشاد، غرفة عمليات رابعة،  فض اعتصام  رابعة،  أحداث وادي النطرون،  التخابر مع حماس، أحداث مسجد الاستقامة، أحداث البحر الأعظم،  قطع طريق قليوب،  أحداث بنى سويف، أحداث العدوة، أحداث قسم شرطة العرب ببورسعيد، أحداث الإسماعيلية، أحداث السويس. بخلاف أحكام ينتظر صدورها في 5 قضايا أخرى.

صموده وثباته

تحمّل د. بديع منذ اعتقاله في  2013م ما لا يتحمله بشر من صنوف الإيذاء النفسي والبدني ظنا من العسكر أنه سيسلم ويخضع لرغبتهم في الاعتراف بالأمر الواقع والتصديق على أن "السيسي" المنقلب هو رئيس مصر، لكن المرشد العام وإخوانه صنف آخر من الرجال، لا يركعون إلا لخالقهم، ولا يفرطون في دعوتهم ومبادئهم لقاء عرض من الدنيا، بل يضربون أروع الأمثلة في الصمود والثبات، ويتحدون الباطل إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا، إما النصر والتمكين وإما الشهادة وهي أعز ما يتمناه كل موحد.

يتعمد السجانون منذ حبسوا د.  محمد بديع أن يمنعوا عنه كل أسباب الحياة، ويتفننوا في إيذائه ظنا منه أنه سيتراجع، فهو محبوس انفراديا، وممنوع عنه الزيارة تماما منذ شهر اكتوبر 2016، ويعاني من تآكل الغضاريف وكسر قديم في العمود الفقري ورغم ذلك لا تقدم له أي رعاية طيبة ولم يعرض على طبيب السجن أو المستشفي وترفض إدارة السجن ذلك .

ومن آن لآخر يتم تجريد زنزانته من كل المتعلقات الشخصية و أدوات النظافة، ويتم   أخذ  الفرش فينام على أرضية الزنزانة حتى بدون غطاء، كما يتم سحب  الكرسي الذي يجلس ويتعكز عليه، إذ لا يستطيع الجلوس علي الأرض ولا النهوض إلا بالاستناد علي هذا الكرسي، ولا يستطيع السجود أو حتى الركوع فقد  كان يصلى على هذا الكرسي.

السجانون يتعمدون أيضا تقديم طعام سيئ  للغاية  للمرشد العام ولا يسمحون له بشراء شيء من كافيتريا السجن، ويمنعون إدخال أي أطعمة من الخارج، أو حتى الدواء، كما يمنعونه من التريض والخروج من الزنزانة إلا لحضور جلسات المحاكمات الملفقة فقط.

ويتعمد الضباط والجنود معاملته بطريقة  قاسية سيئة وغير آدمية، حتى وصلت هذه الانتهاكات إلى حد خطير جدا يخشي منه على حياته.

أما فيما قبل ثورة يناير 2011م، فقد سجن د. بديع بسبب انتمائه للدعوة  أكثر من مرة، أولها وهو شاب في سن الثانية والعشرين، في القضية العسكرية المعروفة بقضية  ( سيد قطب والإخوان)  عام 1965م  وحُكم عليه بخمسة عشر عامًا، قَضى منها 9 سنوات، وخرج في 4 أبريل 1974م، كما سجن عام 1998م لمدة 75 يومًا في قضية جمعية الدعوة الإسلامية ببني سويف ؛ حيث كان يشغل منصب رئيس مجلس إدارة الجمعية، وسجن ثالثا في عام 1999م  في القضية المعروفة بـ "قضية النقابيين" ؛ حيث حكمت المحكمة العسكرية عليه بالسجن خمس سنوات، قضى منها ثلاث سنوات وخرج بأول حكم بثلاثة أرباع المدة سنة 2003م.، ثم اعتقل عام 2008 لمدة شهر مع عدد من أعضاء وقيادات الإخوان خلال انتخابات المحليات.

حياته الدعوية  

كل من رافقوا د. محمد بديع في سجنه، في أي وقت من الأوقات، يذكرون عنه أنه كان يشغل معظم وقته بالدروس التربوية والدعوية إن كان في عنبر حبس جماعي، وبالذكر والدعاء والتلاوة والاستغفار ان كان في سجن انفرادي،  ومن خصائص دعوته  أنه لا يتحدث دون أن يضمن كلامه آيات قرآنية  وأحاديث نبوية، فهو يرى أن إجابة أي سؤال إنساني موجودة في القرآن والسنة، حتى في معرض إجابته عن سؤال عن أسباب الحملات الإعلامية على الجماعة كان يستشهد بآي القرآن، وهو ما يعنى أن روح الرجل معلقة بالقرآن وبسيرة الرسول صلى الله علية وسلم، وأنه يطبق عمليا ما يهتف به الإخوان ليل نهار:" الله غايتنا، والرسول قدوتنا والقرآن دستورنا".

وعن أسلوبه الدعوي كتب عبد الرحمن يوسف بريك، أحد إخوان الفيوم مقالا أثبت فيه شهادة فريدة عما رآه من د. بديع عندما كان محبوسا معهم في سجن الفيوم عام 2008م، حيث قال نصا: " كان يجلس على كرسيه الذي أعددناه له في مصلى عنبر (8) بسجن الفيوم العمومي بدمو ونحن نجلس بين يديه- ليس الإخوان وحدهم، بل كافة التيارات الدينية داخل السجن- عصر يوم من أيام شهر أبريل 2008 إبَّان انتخابات المحليات، وهو يفيض علينا من علمه الغزير وأفقه الواسع، وبعد فترة أحس أنه تحدَّث كثيرًا، فقال: نقطع الحديث بأنشودة صغيرة، وبدأ بصوته العذب الحنون ينشد:

طيور الهنا والمنى رفرفي وغني نشيد الهدى واعزفي

وخُصي بلحنك مَن يقتفي بسنة طــه عليه السلام

عليه الصلاة وأزكى السلام

انساب صوت د. محمد بديع الحنون حتى أحسسنا أنه حلق بنا في فضاءات واسعة وطار بنا إلى عنان السماء، لم نكن نحس بأجسادنا بل أحسسنا أننا في ملكوت سماوي رحب، كنا نردد خلفه هذا المقطع، وهو يكمل إنشاده:

أعزك يا شرق هـذا اليتيم بنهج قويم وخلق عظيم

فسيروا على نهجه المستقيم لنرقى ونسمو بين الأنام

عليه الصلاة وأزكى السلام

تهامسنا فيما بيننا: لماذا تأخر مجيئه حتى أواخر أيامنا التي رأينا عندئذ أنها قاربت على الانتهاء داخل السجن بعد أن حسمت الحكومة أمر المحليات تمامًا بطريقتها المعروفة؟ أندعو الله ألا يفرج عنا؟ وهل يصح أن ندعو بذلك؟ كنا نريد أن ننهل أكثر من نبعه الرقراق الصافي، تزودنا في أيامنا القليلة تلك بزاد لم ننهل مثله من قبل، صحح لنا الكثير من المفاهيم التي كانت تغيب عن الكثيرين منا، أهمها حين سألناه عن سيد قطب وكيف يقرأ الكثيرون كتاباته وآراءه بصورة تكفيرية تصبغ المجتمع بصبغة الجاهلية- كما يحلو للبعض تفسيرها- فقال د. محمد بديع: لقد مكثت عدة أشهر في زنزانة واحدة في أزمة 1965 مع سيد قطب وسألته عن مقصده من كتاباته تلك، وهل- فعلاً- يقصد تلك التفاسير التي فهمها البعض من تكفير للمجتمع ؟ فكان رده- رحمه الله- بليغًا حيث أجابني (والكلام لا زال للدكتور بديع): حين يرى الأب ابنه يقوم بفعلة ينكرها عليه أبوه فقد يقول له بلهجة الغاضب: لا أنت ابني ولا أعرفك، فهل قصد الأب أن هذا الولد ليس ابنه فعلاً؟ قلنا: لا، قال: أجابني الأستاذ سيد رحمه الله: فهكذا أريد أن أقول للمسلمين، أيعقل أنكم مسلمون وتقومون بكل هذه المنكرات والأفعال التي يأباها الإسلام؟!!.أراحنا جواب د. بديع الذي نقله عن سيد قطب، وأراحنا كثيرًا بمفاهيمه عن معاني أسماء السور في القرآن، ولماذا اختار الله لكل سورة اسمها دون غيره من الأسماء، أحسسنا كما قلت بمداركنا تتفتح على يديه، وقلوبنا تصفو، وأرواحنا تخف، والدنيا كلها تصغر بين أعيننا.

أما الموقف الأكثر تأثيرًا فكان عند عودتنا من العرض الأخير أمام نيابة أمن الدولة العليا بالتجمع الخامس حين قررت إخلاء سبيلنا، عدنا بعد صلاة العصر بقليل، لم نعد إلى حجراتنا في عنبر (7)، بل ذهبنا أولاً إليه في عنبر (8) ولما دخلنا مصلى العنبر وجدناه جالسًا كعادته على كرسيه وحوله الكثيرون، فلما رآنا قال: ما الخبر؟ قلنا بصوت واحد: "أخذنا إفراج"، ظنناه عندئذٍ سيقول الكلمة المشهورة: مبروك، أو يقوم بتهنئتنا بالإفراج عنا، بل بادرنا بقوله: اسمعوا.. اللي اتعلمتوه هنا أمانة في أعناقكم، أول ما تخرجوا تعلموه لإخوانكم بره، ثم قام بعناقنا وتهنئتنا بعد ذلك.

فكرت طويلاً في كلمته التي بادرنا بها، رجل كل همه دعوته، كل همه أن يتعلم الناس الفهم الصحيح للإسلام، لا يقف أمام هدفه عائق، لا السجون تحول بينه وبين هدفه، ولا العوائق تمنعه عن مواصلة طريقه.

أما لسانه فهو دائم الذكر لكتاب الله، كثير الاستشهاد بآيات كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، يقيم الليل رغم تقدم سنه، يقتفي أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم:

لم نره أبدًا منفعلاً، بل كان الهدوء سمة لازمة له، لديه إجابة عن كل ما نسأل ..خلاصة القول: إنه ملك علينا قلوبنا، ليس ذلك فقط، بل إن إخواننا من باقي التيارات الإسلامية جاءت إليه في عنبره يسمعون منه ويستفسرون عن الكثير من المعاني والمفاهيم التي غابت عنهم، ندم الكثيرون منهم على عمرهم الذي قضوا كثيرًا منه خلف الأسوار عندما ساروا خلف أفكار خاطئة لم تحمل من الإسلام إلا اسمه.

هذا هو المرشد الثامن كما عرفته عن قرب ولأيام قلائل، يحب الشباب ويأمل فيهم الخير والمستقبل لجماعة الإخوان المسلمين وللأمة بأسرها". انتهت شهادة عبدالرحمن بريك، وبقيت دلالتها المؤثرة على شخصية دعوية فذة.

ولم يكن موقف د. بديع من الأقباط بعيدا عن هذا الفقه الدعوي، فرغم انحياز الكنيسة ضد الإخوان، ورغم توجس الأقباط غير المبرر، سعى د. بديع منذ أن تولى منصب المرشد العام للتواصل معهم، مؤكدا في لقاءاته معهم على رسوخ ووحدة النسيج الوطني، مشددًا على حق المواطنة لكل المصريين على قدم المساواة.

انضم د. بديع إلى الإخوان منذ عام 1959م، حيث كان عمره آنذاك 16 عاما ميلاديا، و تدرج في المناصب الإدارية بالجماعة حتى أصبح عضوا في مكتب الإرشاد عام 1993م، ثم مرشدا عاما في 16 يناير 2010م خلفا للمرشد السابق مهدي عاكف، وهو المرشد العام الثامن في تاريخ الجماعة.

مشوار الحياة

ولد د. محمد بديع عبد المجيد محمد سامي، المرشد العام الثامن لجماعة الإخوان المسلمين، بمدينة المحلة الكبرى في 7 أغسطس 1943م،  وحصل على بكالوريوس طب بيطري جامعة القاهرة سنة 1965م، ثم عين معيدا بكلية طب بيطري جامعة أسيوط في العام نفسه، وتدرج علميا فحصل على الماجستير عام 1977م من جامعة الزقازيق، ثم الدكتوراه من نفس الجامعة عام 1979م، وترقى حتى وصل إلى أستاذ مساعد بطب بيطري جامعة الزقازيق1983 م، ثم أستاذ بطب بيطري جامعة القاهرة فرع بني سويف  عام 1987م.

تولى بعد ذلك مناصب   رئيس قسم الباثولوجيا بكلية طب بيطري جامعة بني سويف، ثم وكيل الكلية لشئون الدراسات العليا والبحوث،  وعمل أخيرا أستاذا متفرغا بقسم الباثولوجيا بنفس الكلية.

أما الأنشطة والمناشط العامة فهي كثيرة، منها على سبيل المثال توليه منصب  أمين عام النقابة العامة للأطباء البيطريين لدورتين، وأمين صندوق اتحاد نقابات المهن الطبية لدورة واحدة، ورئيس مجلس إدارة جمعية الباثولوجيا الإكلينيكية لكليات الطب البيطري على مستوى الجمهورية، ورئيس هيئة مجلة البحوث الطبية البيطرية لكلية طب بيطري بني سويف لمدة 9 سنوات، ورئيس مجلس إدارة مركز خدمة البيئة بكلية طب بيطري بني سويف.

وقام  بإنشاء المعهد البيطري العالي في صنعاء عاصمة الجمهورية العربية اليمنية وتولى إدارته لمدة أربع سنوات خلال إعارة من 1982- 1986م.

وتم إدراج د. محمد بديع ضمن أعظم مائة عالم عربي في الموسوعة العلمية العربية التي أصدرتها هيئة الاستعلامات المصرية عام 1999م.

والدكتور بديع  متزوج من السيدة سمية الشناوي، ابنة الضابط طيار محمد علي الشناوي من الرعيل الأول لجماعة الإخوان المسلمين، وأبناؤه هم: "عمَّار" الذي استشهد في ميدان رمسيس بالقاهرة في 16 اغسطس 2013م، وكان يعمل مهندس كمبيوتر، وبلال (طبيب أشعة) و ضحى (صيدلانية)، والأحفاد هم: رؤى وحبيب وإياد.

من أقواله:

* أيها الإخوان: "إن من الناس من يتبع القول بقول ويظل يدور في فلك الأقوال، ولا يعمل شيئًا، ومنهم من يتبع القول بالعمل، ومنهم من يتبع العمل بعمل ولا مكان عنده للكلام.. فاعملوا في صمت، وأخلصوا في عملكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون".

* أيها الإخوان: احرصوا على رباط أخوتكم، فهي عماد قوتكم، وسر نجاحكم، وإن الجماعة لا تحقق أهدافها إلا بالثقة في القيادة والطاعة المبصرة فى المعروف لها.. (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)) (التوبة).

* بعد سجنه في 2013م: "إننا في مرحلة تمايز واصطفاء، والتمايز لا يكون بين ثلاثة أو أربعة اختيارات، وإنما يكون بين اختيارين فقط: الأبيض والأسود، حتى إذا تم التمايز بينهما يأتي الله بالفتح، يقول تعالى: (بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق)

* من داخل السجن: " من معنا اليوم وليس لهم أعمال سابقة جاءوا باختيار الله وليس باختيار أحد منا، انظروا إلى من ثبتهم الله منا ومن كانوا معهم على نفس الطريق ثم زاغت قلوبهم، إنها إرادة من يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور.. لم يأتِ أحد إلى السجن خطأ.. الله هو الذي أراد ذلك بمشيئته وقدرته لحكمة يعلمها، وتدبيره هو الخير لنا جميعًا".