باتت في مرمي القمع كليا| الصحافة المصرية تواجه معركة البقاء

الخميس - 15 مايو 2025

  • صراع مع السلطة العسكرية منذ عام 1952 .. وأشرس حلقاته بدأ في 2014
  •  قيود قانونية ورقابة على حرية التعبير وصعوبة في الحصول على المعلومات
  • مصر  بالمرتبة السادسة عالميا في سجن الصحفيين والمرتبة 170 في الحريات
  • صورة دولية قاتمة للصحافة المصرية تؤكد استمرار سياسات النظام القمعية

 

إنسان للإعلام- تقرير:

في مشهد إعلامي معقد تتقاطع فيه تحديات المهنة مع القيود السياسية، يقف الصحفيون المصريون على خط المواجهة بين مسؤولية نقل الحقيقة وضغوط السلطة، إذ يجد الصحفيون أنفسهم في معركة يومية للحصول على حقوقهم الأساسية، من حرية التعبير والوصول إلى المعلومات، إلى الأمان المهني والقانوني، فضلاً عن مطالبهم بالعدالة في الأجور.

وفي ظل مناخ سياسي يقيد الحريات، منذ العام 1952، تصبح ممارسة الصحافة في مصر مغامرة محفوفة بالمخاطر؛ حيث يتعرض الصحفيون لحملات تشويه، واعتقالات، وإجراءات رقابية مشددة، خصوصا بعد استيلاء عبدالفتاح السيسي على السلطة بانقلاب يوليو 2013، وتنصيبه رئيسا غير شرعي للدولة في 2014.

وبينما يسعى الصحفيون للتمسك بدورهم في كشف الحقائق، يجدون أنفسهم في مواجهة نظام لا يتسامح مع الأصوات المستقلة أو النقد البناء، ما يجعل من عملهم تحديًا يوميًا يتجاوز مجرد أداء الواجب المهني، ليشمل الصمود في وجه القمع الاقتصادي والمعيشي، والقيود القانونية والرقابية على حرية التعبير وصعوبة الحصول على المعلومات وتزايد الفصل التعسفي.

هذا التقرير يستعرض صورًا متعددة من معاناة الصحفيين المصريين داخل بيئتهم المهنية، ويلقي الضوء على تطلعاتهم نحو تحرير المهنة من سطوة الرقابة، وحمايتهم من الانتهاكات المستمرة، وانتشالهم من دائرة العوز الاقتصادي

تاريخ طويل من النضال مع السلطة

منذ نشأتها قبل نحو مئتي عام، خاضت الصحافة المصرية صراعًا مستمرًا مع السلطات الحاكمة، حيث شكلت مرآة للمجتمع ومنبرًا لنقل الحقيقة، لكنها واجهت في المقابل ضغوطًا ورقابة مشددة.

 وقد اتخذ هذا الصراع أشكالًا متعددة، بدءًا من التصادم مع نظام الضباط الأحرار في يوليو 1952، حيث شهد عهد الرئيس جمال عبد الناصر أكثر الفترات قسوة على الصحافة الحرة، مع فرض رقابة صارمة وتعيين صحفيين موالين لإدارة الصحف الكبرى، مثل محمد حسنين هيكل في صحيفة الأهرام، وإنشاء صحف حكومية مثل جريدة الجمهورية التي رأسها أنور السادات، وفي عام 1960، جرى تأميم الصحافة بالكامل عبر قوانين "تنظيم الصحافة"، مما وضعها تحت سيطرة الدولة المباشرة.

ومع هزيمة 1967 وما تبعها من تغييرات سياسية، شهدت فترة حكم الرئيس أنور السادات انفراجة نسبية، حيث ظهرت منابر صحفية متنوعة، لكن سرعان ما ضاقت هذه المساحة بعد توقيع اتفاقية كامب ديفيد، ليتعرض الصحفيون لحملة قمعية بلغت ذروتها عام 1981 باعتقال رموز إعلامية بارزة مثل محمد حسنين هيكل[1].

وفي عهد الرئيس حسني مبارك (1981-2011)، ورغم وجود هامش محدود من حرية الصحافة، استمرت القيود القانونية، وبرز ذلك في الصدام الكبير عام 1995، حينما حاول النظام تمرير قانون رقم 93 لتشديد العقوبات في قضايا النشر، ما أثار  احتجاجات واسعة من الصحفيين، انتهت بتعديلات على القانون الذي صدر بصيغته الجديدة رقم 96 لسنة 1996.

لكن الصراع بين الصحافة الحرة والنظام بلغ ذروته مع ثورة 25 يناير 2011، حيث عاشت الصحافة عصرًا ذهبيًا في فترة حكم الرئيس محمد مرسي، الذي أتاح حرية واسعة للإعلام، إلا أن هذه الفترة القصيرة لم تدم، إذ انقلب المشهد بعد أحداث 2013، وعادت القيود لتخنق الصحافة، وأصبحت المؤسسات الإعلامية خاضعة لسيطرة الدولة، مع ملاحقة الصحفيين وإحكام الرقابة على النشر[2].

وفي مايو 2016، تعرضت نقابة الصحفيين لأول اقتحام أمني في تاريخها، بعد احتجاجات ضد تسليم جزيرتي تيران وصنافير للسعودية، وهو ما اعتبره الصحفيون اعتداءً على كرامتهم المهنية، ودفعهم لعقد جمعية عمومية، مطالبة باحترام القانون والإفراج عن الصحفيين المعتقلين.

بهذا، أصبحت الصحافة في عهد عبد الفتاح السيسي مجرد صدى لسياسات السلطة، مع سيطرة الدولة على وسائل الإعلام وحجب المواقع المستقلة، مما جعل مناخ العمل الصحفي أكثر قتامة[3].

مواجهة متواصلة مع تحديات متعددة

على مدار العقد الماضي، عايش الصحفيون المصريون سلسلة متصاعدة من القيود والتحديات التي أُلقيت على عاتقهم، فأصبح العمل الصحفي ميدانًا للصراع من أجل البقاء، في ظل بيئة سياسية وتشريعية خانقة. ويمكن تلخيص أبرز هذه التحديات فيما يلي:

أولًا: القيود القانونية والتشريعية:

في أعقاب ثورة 25 يناير، شهدت الصحافة المصرية فترة من الانفتاح النسبي، حيث نص دستور 2012 على ضمان حرية الصحافة وحماية الصحفيين من الملاحقة القضائية بسبب عملهم. وقطع الرئيس محمد مرسي وعدًا بتكريس هذه الحريات وتعزيزها تشريعيًا، وهو ما انعكس على بيئة العمل الصحفي آنذاك.

لكن مع وصول عبد الفتاح السيسي إلى السلطة، تبدل المشهد بشكل جذري، إذ أصبحت التشريعات أداة لتقييد الحريات الإعلامية.

 وخلال السنوات العشر الأخيرة، وثّقت تقارير دولية أكثر من 186 نصًا قانونيًا حدّت من حرية الصحافة في مصر.

وقد اعتمد النظام على مجموعة واسعة من القوانين القمعية، مثل قوانين الطوارئ وقانون الإرهاب وقانون الجرائم الإلكترونية، التي استخدمت لتكميم الأفواه وتقييد المحتوى الإعلامي[4]  . 

ورغم أن دستور 2014 أكد في مواده (65 و70-72) على حرية الفكر والتعبير، وحظر الرقابة على وسائل الإعلام، إلا أن القوانين التي صدرت لاحقًا قوضت هذه الضمانات، مانحة المجلس الأعلى للإعلام صلاحيات واسعة للتحكم في منح تراخيص الصحف والمواقع الإلكترونية، وحجب المحتوى، وتقييد النشر[5].

ثانيًا: التضييق على حرية التعبير:

شهد العقد الماضي حملة متواصلة من الرقابة على حرية التعبير، تمثلت في إغلاق عشرات الصحف وحجب مئات المواقع الإخبارية، وتشريد آلاف الصحفيين.

 وقد أدانت منظمات حقوقية هذا التضييق، حيث أصدرت ست منظمات حقوقية في عام 2023 بيانًا نددت فيه بسياسة حجب المواقع، مؤكدة أن هذه الإجراءات تتعارض مع الحق الدستوري في حرية التعبير.

وتوسعت السلطات في فرض قيود إضافية، شملت منع التصوير في الأماكن العامة دون تصاريح، ومصادرة المعدات، ومسح محتوى الكاميرات، ورفض نشر مقالات تنتقد النظام، بل وصل الأمر إلى منع صحفيين من السفر، ومصادرة أعداد الصحف أو تأخير طبعها لإجبارها على حذف أو تعديل محتوى معين[6] .

ثالثًا: صعوبة الحصول على المعلومات:

تظل أزمة تداول المعلومات في مصر حجر عثرة أمام العمل الصحفي، إذ تُحكم هذه القضية بترسانة من القوانين التي تعود إلى عقود مضت، منها قانون المطبوعات والنشر لعام 1936، وقانون الوثائق القومية لعام 1954، وقانون تنظيم الصحافة والإعلام لعام 2018. ورغم الوعود المتكررة بإصدار قانون لتداول المعلومات، إلا أن هذه الوعود بقيت حبرًا على ورق.

وفي دراسة صادرة عن مؤسسة حرية الفكر والتعبير عام 2021، تحت عنوان "سري للغاية.. كيف قيدت القوانين تداول المعلومات في مصر؟"، تبين أن النظام الحالي حريص على إبقاء المعلومات بعيدة عن متناول الصحفيين، مما يعمق أزمة الشفافية ويضعف قدرة الصحافة على أداء دورها الرقابي[7] .

رابعًا: تهديدات وانتهاكات مستمرة للصحفيين:

في بيئة قمعية تخنق حرية الرأي والتعبير، باتت مصر واحدة من أسوأ الدول في العالم من حيث احترام حقوق الصحفيين. ووفقًا لتقرير المرصد العربي لحرية الإعلام، بلغ عدد الصحفيين المحتجزين في مصر حتى مطلع عام 2025 43 صحفيًا، فيما سُجلت 319 انتهاكًا بحق الصحفيين خلال عام 2024 وحده[8] .

وتشمل هذه الانتهاكات الاعتقال التعسفي، والتوقيف لفترات طويلة دون محاكمة، وسوء المعاملة داخل السجون. وقد وثقت المفوضية المصرية للحقوق والحريات حالات لصحفيين تجاوزوا فترة الحبس الاحتياطي، مثل الكاتب الصحفي توفيق غانم والصحفي حمدي الزعيم، الذين لا يزالون رهن الاعتقال التعسفي[9].

خامسًا: الفصل التعسفي جريمة مستمرة:

لم تقتصر معاناة الصحفيين على القيود القانونية والملاحقات الأمنية، بل امتدت إلى الفصل التعسفي من العمل، حيث فقد أكثر من 3000 صحفي وظائفهم خلال العقد الماضي.

وقد جاء هذا الفصل كنتيجة مباشرة لسيطرة الجهات السيادية على وسائل الإعلام، وممارسة الضغوط على المؤسسات الإعلامية لفصل الصحفيين المعارضين.

أبرز هذه الحالات كانت في عام 2017، عندما أُبلغ خالد صلاح، رئيس تحرير جريدة "اليوم السابع" حينها، نحو 300  صحفي بأن مالك الجريدة الجديد هو عبد الفتاح السيسي، وأنهم مطالبون بالمغادرة بسبب آرائهم المعارضة.

كما شهدت صحف "الدستور و"البوابة نيوز" و"صدى البلد" و"الوطن" موجات مشابهة من الفصل التعسفي، استجابة لتوجيهات أمنية.

ولم يسلم الصحفيون العاملون في القنوات التلفزيونية من هذه الإجراءات، حيث تعرض إعلاميون للفصل بسبب عملهم أو بسبب آرائهم السياسية، مثل عبير حمدي الفخراني وعزة الحناوي، اللتين واجهتا التحقيق والفصل بسبب انتقاداتهما.

انتقادات دولية مستمرة لتصاعد الانتهاكات

خلال العقد الماضي، لم تتوقف التقارير الدولية عن توثيق وتصعيد الانتقادات ضد الانتهاكات المستمرة التي يتعرض لها الصحفيون في مصر، حيث باتت صورة البلاد قاتمة في مرآة حرية الصحافة العالمية.

وفقًا لتقرير صادر عن منظمة "مراسلون بلا حدود"، تراجعت مصر إلى المرتبة 170  من بين 180 دولة في التصنيف العالمي لمؤشر حرية الصحافة لعام 2024، مسجلة تراجعًا بمقدار أربع مراتب مقارنة بعام 2023. ووصفت المنظمة مصر بأنها واحدة من أكبر السجون في العالم للصحفيين، مؤكدة أن الآمال التي حملتها ثورة 25 يناير في تحقيق حرية الصحافة قد تلاشت تمامًا، لتحل محلها رقابة خانقة واضطهاد ممنهج للعاملين في المجال الإعلامي[10] .

وفي السياق ذاته، أصدرت لجنة حماية الصحفيين (CPJ) تقريرًا في يناير 2025، أكدت فيه أن مصر تحتل المرتبة السادسة عالميًا من حيث عدد الصحفيين المسجونين، بإجمالي 24  صحفيًا يقبعون خلف القضبان، وهو مؤشر واضح على تصاعد القمع الممنهج ضد الإعلاميين.

وأشار التقرير إلى أن الصحفيين المصريين لا يواجهون فقط السجن، بل يعانون أيضًا من التضييق المستمر، وحظر النشر، والملاحقات القضائية[11] .

وبالإضافة إلى ذلك، أصدرت أكثر من 10 منظمات حقوقية دولية وإقليمية ومحلية في ديسمبر 2024، بيانًا مشتركًا نددت فيه بتدهور أوضاع الصحافة في مصر. وشملت هذه المنظمات مؤسسة حرية الفكر والتعبير (AFTE)، ومركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، والأورومتوسطية للحقوق، ومنظمة هيومينا لحقوق الإنسان والمشاركة المدنية، والفدرالية الدولية لحقوق الإنسان (FIDH)، ومنصة اللاجئين في مصر (RPE)، ومعهد التحرير لسياسات الشرق الأوسط.

وأكد التقرير الصادر عن هذه المنظمات أن الصحفيين في مصر يتعرضون لانتهاكات ممنهجة تشمل مصادرة حرية التعبير، وإغلاق المواقع الإخبارية بشكل تعسفي، ورفض منح التراخيص لمواقع مستقلة مثل "مدى مصر" و "المنصة" و"فكر تاني"، في محاولة لخنق الأصوات المستقلة والناقدة.

وطالبت المنظمات الموقعة على البيان المجتمع الدولي، بما في ذلك مؤسسات الاتحاد الأوروبي والدول الأعضاء، باتخاذ إجراءات فورية للضغط على النظام المصري، وشملت توصياتها:

  • الإفراج الفوري وغير المشروط عن جميع الصحفيين المحتجزين على خلفية عملهم الصحفي.
  • رفع القيود المفروضة على الصحفيين والنشطاء الإعلاميين والمدونين، بما في ذلك حظر السفر وتجميد الأصول.
  • إنهاء حجب المواقع الإلكترونية وضمان حرية الوصول إلى المعلومات وفقًا للدستور المصري والمواثيق الدولية.
  • إيقاف ممارسات الرقابة والمضايقات والترهيب ضد الصحفيين والمواطنين الذين يمارسون حقهم في حرية التعبير.
  • التعديل الفوري للقوانين المقيدة للحريات الصحفية، بما يضمن حرية النشر والتعبير دون قيود مسبقة.

هذه الانتقادات الدولية تعكس صورة قاتمة لواقع الصحافة في مصر، وتؤكد أن النظام المصري لا يزال ماضياً في سياساته القمعية ضد الإعلام، رغم النداءات المستمرة من المنظمات الدولية بضرورة احترام حرية الصحافة وحقوق الصحفيين[12].


المصادر:

[1]  أحمد بهاء الدين شعبان ، "تاريخ الصحافة المصريّة مع معركة الحريّة" ، الاخبار لبنانية ، 12 تشرين الثاني 2007 ، https://2u.pw/B0avy

[2]  الباحث محمد توفيق ، " الصحافة والسلطة في مصر... سرد تاريخي" ، الشرق الأوسط  ، 22 سبتمبر 2020 ، https://goo.su/kNhbM8

[3]  "تراجع الصحافة المصرية.. إرادة مسؤولي السلطة أم استسلام أصحاب المهنة؟" ، الجزيرة نت، 11 مايو 2021 ، https://2u.pw/Sm5isQmh

[4]  "مراسلون بلا حدود: عشرية السيسي السوداء كانت الأسوأ على حرية الصحافة " ، موقع مراسلون بلا حدود ، الأحد - 2 يوليو 2023 ، https://cutt.us/DsFzk

[5]   "قراءة في نصوص قانون تنظيم الإعلام ومناقشات لجنة إعداد دستور 2014" ،  مركز مسار للبحوث والدراسات ، فبراير 2021 ، https://cutt.us/ilCVS

[6]  "حجب المواقع الإخبارية .. منظمات حقوقية تدين حجب المواقع الإلكترونية في مصر" ، القدس العربي  ،20 يونيو2023 ، https://2u.pw/GruKD

[7]   "سري للغاية.. كيف قيدت القوانين تداول المعلومات في مصر؟" ، مؤسسة حرية الفكر والتعبير ، 15 نوفمبر 2021 ، https://2u.pw/8Vk57

[8]  "مرصد حقوقي: 43 صحفيا مصريا وراء القضبان وانتهاكات بالجملة في 2024" ، عربي21 ، 5 يناير 2025 ، https://goo.su/4AecOJh

[9]  "أنقذوا حرية الرأي” تنشر حصاد انتهاكات الصحافة والإعلام خلال 2024" ، المفوضية المصرية للحقوق والحريات، يناير 2025، https://goo.su/ce40

[10]   "مراسلون بلا حدود: مصر تحتل المركز الـ 170 في مؤشر حرية الصحافة لعام 2024 " ، رصد ،  3 مايو 2024،  https://rassd.net/539545.htm                 

[11]  "لجنة حماية الصحفيين: مصر تحتل المركز السادس عالميًا في حبس الصحفيين" ، موقع المنصة ،  17 يناير 2025 ، https://manassa.news/news/21763      

[12]   "منظمات حقوقية وصحفيون يجددون التأكيد على أهمية الدفاع عن حرية الصحافة والإعلام في مصر" ، مؤسسة حرية الفكر والتعبير، 2 ديسمبر 2024 ، https://2u.pw/3bOOe