11 عامًا من التعتيم على "تقصي حقائق رابعة"| هكذا ا اختار "السيسي" الحل الدموي
السبت - 16 آغسطس 2025
"إنسان للإعلام"- تقرير:
مرت الذكرى الثانية عشرة لمذبحة رابعة العدوية والنهضة-التي شهدت واحدة من أعنف لحظات القمع في تاريخ مصر الحديث، وأسفرت عن مئات القتلى وآلاف المصابين والمختفين قسريًا، وفق تقديرات حقوقية- وما زال الغموض يلف تقرير لجنة تقصي الحقائق التي شُكِّلت بقرار جمهوري عام 2013، وسلّمت تقريرها النهائي لعبد الفتاح السيسي قائد الانقلاب، في نوفمبر 2014.
لم ينشر التقرير، الذي امتد إلى 766 صفحة، مرفقًا بآلاف الوثائق والصور والفيديوهات، ولم ير النور حتى اليوم، برغم تلك الأحداث الدامية، ولم يُعرض على الرأي العام منه سوى ملخص مقتضب لا يتجاوز بضع صفحات، فيما بقيت الحقائق الكاملة طي الكتمان.
ولعلّ المفارقة أن رئيس اللجنة، القاضي الدولي السابق فؤاد عبد المنعم رياض، رحل عن الدنيا عام 2020 بعدما كتب قبل وفاته بأسابيع قليلة يشكو من أن التقرير ما زال "طي الكتمان".
أما أمينها العام، المستشار عمر مروان، فشغل لاحقًا مناصب رفيعة بينها وزارة العدل ومدير مكتب السيسي، ما أثار تساؤلات حول دور الصمت الرسمي في طمس الحقيقة.
بعد 12 عامًا، لا تزال الأسئلة معلّقة: لماذا لم يُنشر التقرير؟ ما الذي يحتويه من حقائق يخشى النظام الكشف عنها؟ والأهم، كم عدد الضحايا الحقيقيين الذين لم يُعترف بهم رسميًا حتى الآن؟
التلاعب في التقرير وتحويله إلى أداة إدانة
اكتفى نظام السيسي بنشر ما عُرف بـ"الملخص التنفيذي" لتقرير لجنة تقصي الحقائق، وهو نص جرى التلاعب بمحتواه، واستُخدم لاحقًا كأساس لإدانة المئات من المعتصمين في رابعة بتهم الإرهاب، حيث سُجن كثيرون استنادًا إليه. وقد كتب هذا الملخص المستشار عمر مروان، الذراع اليمنى للسيسي حاليًا ومدير مكتبه، وهو ما أثار شكوكًا حول نوايا السلطة في طمس جوهر التقرير الأصلي.
في المقابل، وصفت "المبادرة المصرية للحقوق الشخصية" ما جرى بأنه عملية لطمس الحقائق، وأصدرت تقريرًا بعنوان: "طمس الحقائق.. من الأوراق الرسمية لعملية فض اعتصام رابعة"، استندت فيه إلى نسخة من تقرير اللجنة ذاته، لتؤكد أن ما حدث كان اعترافًا رسميًا بالمذبحة.
وثّق التقرير الرسمي عدد الضحايا الذين تسلّمتهم مشرحة زينهم يوم الفض كالتالي: 4 ضباط، و5 مجندين، وما لا يقل عن 618 مدنيًا، دون أن يشمل الجثامين التي نُقلت خارج الإطار الرسمي، والتي قدّرتها مصادر مستقلة بنحو 200 ضحية إضافية.. وهكذا تكشف الوثائق أن العدد الحقيقي يفوق بكثير ما أعلنته الدولة.
أكد التقرير أن قوات الأمن استخدمت الذخيرة الحية بصورة عشوائية وغير متناسبة مع "حجم العناصر المسلحة داخل الاعتصام"، كما أظهر أن العقبات التي بررت بها السلطات عنفها، مثل اندماج المسلحين وسط المعتصمين السلميين، كانت متوقعة أصلًا ومذكورة في خطة الفض، ما ينفي حجة المفاجأة ويؤكد أن القوة المفرطة لم تكن ضرورة، بل خيارًا متعمدًا.
ولم يتوقف التقرير عند ذلك، بل أوضح أن البدائل السلمية كانت مطروحة بالفعل: حصار الميدان ومنع انضمام أفراد جدد، قطع الكهرباء والمياه، أو عرقلة دخول المؤن الغذائية، ورغم أن هذه السيناريوهات كانت أقل كلفة بكثير على السكان والضحايا، فقد فضّل المسؤولون الخيار الدموي بدعوى حماية سكان المنطقة.
خلصت اللجنة إلى أن الغالبية الساحقة من القتلى لم يكونوا مسلحين، بينما تمكن من حملوا السلاح من الهرب.
كما أكد التقرير، خلافًا للرواية الرسمية، أن قوات الأمن لم توفر ممرًا آمنًا لخروج المعتصمين، بل إن محضر الأمن الوطني الذي اعتمد عليه التقرير نفسه أقر بعدم وجود حماية، مع ورود شهادات عديدة عن تعرض من حاولوا الخروج للضرب والاعتقال.
انتهت اللجنة إلى توصية واضحة هي: إعادة فتح الملف بواسطة لجنة قضائية مستقلة تستدعي الشهود والمسؤولين حتى يطّلع الرأي العام على الحقيقة، حمايةً لوحدة المجتمع ومنعًا لانقسامه، لكن هذه التوصية بقيت حبرًا على ورق.
ورغم أن اللجنة شُكّلت بقرار جمهوري، فإن تكليفها جاء منزوع الصلاحيات القضائية، فلا سلطة تحقيق، ولا استدعاء، ولا إحالة إلى المحاكم، وكان دورها توثيقيًا بحتًا، وهو ما جعل جهدها الضخم يتحول من وثيقة للعدالة إلى دليل على غياب دولة القانون.
موقع "الموقف العربي" اعتبر أن ما جرى في رابعة لم يكن موجهًا ضد "جماعة الإخوان" وحدها، بل كان رسالة سياسية من النظام الجديد إلى كل القوى المعارضة: أن أجهزة الأمن فوق القانون، وأن البطش بالخصوم لا تحده دساتير ولا قضاء، وهي الرسالة التي فهمتها قوى المعارضة جيدًا، فانسحب جزء كبير منها من المشهد السياسي بعد المجزرة.
أهم نقاط تقرير "طمس الحقائق"
رغم أن اللجنة لم تعلن سوى ملخص تنفيذي من 57 صفحة لم يتضمن سوى سبع صفحات عن فض اعتصام رابعة، وأعده الأمين العام للجنة عمر مروان، فإن هذا الملخص لم يختلف عن الرواية الرسمية التي روّجتها السلطات في أعقاب المذبحة.
وقد اعتمدت النيابة العامة هذه الرواية كأساس لاستجواب ومحاكمة 739 معتقلًا من المعتصمين، في قضية بدأت عام 2015 واستمرت ثلاث سنوات، وانتهت بأحكام جماعية شملت الإعدام والمؤبد، إضافة إلى إدانة 22 طفلًا قُبض عليهم أثناء الفض أو بعده، وصدر بحقهم حكم بالسجن عشر سنوات يعقبه خمس سنوات من المراقبة الشرطية.
تلك الرواية التي تضمنها الملخص التنفيذي جاءت في عناصر محددة: أن اعتصام رابعة كان بؤرة مسلحة، وأن قوات الأمن وجهت إنذارات عبر مكبرات الصوت ومنحت المعتصمين مهلة للمغادرة عبر ممر آمن خصصته لذلك، وأن المعتصمين قاوموا باستخدام العنف وفتحوا النار على القوات التي ردت باستخدام الذخيرة الحية بالقدر الضروري والمتناسب.
كما زعمت الرواية أن أغلب المعتصمين تمكنوا من الخروج بسلام بعد القبض على المتورطين في العنف، وأن القوات عثرت داخل الميدان على 51 قطعة سلاح ناري وكميات من الذخيرة.
لكن ما لم يُنشر رسميًا هو التقرير النهائي الكامل الذي بلغ مئات الصفحات، وحصلت "المبادرة المصرية للحقوق الشخصية" على نسخة منه، وكشفت أن اللجنة القومية جمعت أدلة ووثائق رسمية غير مسبوقة.
من أبرز هذه الوثائق خطة الفض التي أُقرت في غرفة عمليات مشتركة بين وزارتي الداخلية والدفاع، وقدمت وزارة الداخلية نسخة منها للجنة، بالإضافة إلى تقرير رسمي أعدته الوزارة بعد انتهاء العملية بالاستناد إلى محضر تحريات الأمن الوطني.
كما تضمن التقرير إفادات رسمية لمسؤولين بارزين التقتهم اللجنة، بينهم قائد عملية الفض، مدير العمليات الخاصة بالأمن المركزي وقتها، ورئيس مجلس الوزراء وأحد نوابه، إلى جانب إفادات من مصلحة الطب الشرعي بوزارة العدل وهيئة الإسعاف بوزارة الصحة وعدد من الضباط الذين شاركوا في التنفيذ الميداني.
هذه الشهادات منحت التقرير ثقله، ليس فقط لكونه التحقيق الرسمي الوحيد حتى اليوم، بل لأنه جمع لأول مرة وثائق وشهادات رسمية تكشف تفاصيل لم يُسمح للرأي العام بالاطلاع عليها.
استخدام الذخيرة الحية بشكل عشوائي
تشير دراسة الإفادات والمعلومات التي جمعتها اللجنة القومية لتقصي الحقائق إلى جملة من الحقائق التي لم يتضمنها أو جرى تحريفها في الملخص التنفيذي المعلن، أهمها أن المسؤولين عن قرار الفض، على مستويات عدة، كانوا على علم مسبق بعدد القتلى المتوقع سقوطهم إذا جرى تنفيذ العملية في يوم واحد.
بل إن خطة الفض التي أعدتها وزارة الداخلية واطلعت عليها اللجنة تضمنت عشرة سيناريوهات محتملة، أدرجت تحت عنوان "المخاطر والعدائيات التي يمكن تنفيذها بمعرفة الإخوان ضد القوات والمواطنين".
هذه السيناريوهات شملت احتمالات استخدام الأسلحة النارية، أو الاعتماد على النساء والأطفال والمعتصمين السلميين كدروع بشرية، أو منع المعتصمين من المغادرة، أو وصول مسيرات غير سلمية لمساندة المعتصمين، وهي جميعها أحداث قالت الرواية الرسمية لاحقًا إنها وقعت بشكل مفاجئ وأجبرت قوات الأمن على الرد الفوري، بينما تكشف الوثائق أن السلطات توقعتها وخطّطت للتعامل معها.
رغم هذا الاستعداد المسبق، انتهت اللجنة إلى أن قوات الأمن استخدمت الذخيرة الحية بشكل عشوائي وغير متناسب، خصوصًا خلال الساعات الخمس الحرجة بين الواحدة ظهرًا والسادسة مساء، ففي الواحدة أصدر القائد الميداني قرار استدعاء المجموعات القتالية الاحتياطية المسلحة وفقًا لخطة الفض، وفي السادسة مساء كانت القوات قد تمكنت من دخول قلب الاعتصام وفرض السيطرة.
الإفادات التي وثقتها اللجنة، خاصة من المسعفين والأطباء في مستشفى رابعة العدوية ومستشفى التأمين الصحي بمدينة نصر، أكدت أن هذه الفترة شهدت العدد الأكبر من القتلى والإصابات.
وطرح التقرير في تحليله النهائي سؤال التناسب في استخدام القوة: هل التزمت قوات الفض بمعايير التناسب من حيث نوعية الأسلحة وكثافة النيران، مقارنة بعدد المسلحين وحجم الحشود ومدة الإنذار والنتائج المترتبة من قتلى وجرحى وإتلاف للممتلكات؟ وقد أجابت اللجنة بأن الحكم على ذلك يستلزم النظر إلى تلك المعايير مجتمعة، لكنها أشارت في أكثر من موضع إلى أن إطلاق النار العشوائي تزايد بعد مقتل أحد الضباط برصاصة في الرأس من جهة المتجمعين، وهي اللحظة التي وصفها التقرير بعبارة "انفرط عقد النظام".
وخلص التقرير إلى أن قوات الشرطة أخفقت في التركيز على مصادر إطلاق النار، وأنها تعاملت بعنف واسع النطاق أصاب المدنيين بالدرجة الأولى، ثم جاءت الخلاصة الحاسمة التي وردت في نص التقرير: "ولا تشك لجنة تقصي الحقائق في أنه كان من الممكن إنهاء تجمع رابعة دون أن تسال كل هذه الدماء".
اعترافات بالعِلْم المسبق بحجم الدماء
في الخلاصة التي تضمنها تقرير اللجنة القومية لتقصي الحقائق والمقدمة إلى السيسي، ورد نص واضح يؤكد أن الإدارة المصرية أخطأت في سياستها المتعلقة بفض اعتصام رابعة، فقد جاء فيه أن الحكومة ارتبكت بين خيارين: فض التجمع بأي ثمن وفي وقت قصير، أو فضه بكلفة بشرية أقل ولكن على مدى أطول.
وقد انحازت الحكومة إلى الخيار الأول، رغم وجود بدائل أخرى مثل تقليص الخدمات الأساسية من إنارة ومياه، أو تجفيف مصادر الدعم البشري، أو شن حملة إعلامية واسعة لإقناع الأهالي بسحب أبنائهم، بما كان سيؤدي إلى تقليص الأعداد وإتاحة التعامل معها بكفاءة أعلى.
هذه البدائل أشار إليها أيضًا محمد البرادعي في نص استقالته من منصب نائب رئيس الجمهورية عقب المذبحة مباشرة، حيث كتب أنه كان يرى وجود حلول سلمية مقبولة لبدء مسار يؤدي إلى توافق وطني، لكنه رفض تحمل مسؤولية قطرة دم واحدة أمام الله وضميره ومواطنيه، مؤكدًا أن إراقتها كان يمكن تفاديه.
ولم يكتف التقرير بالإشارة إلى البدائل، بل أثبت أن المسؤولين كانوا يدركون مسبقًا أن الفض بالقوة سيؤدي إلى سقوط عدد كبير من القتلى، فقد قدم رئيس الوزراء آنذاك حازم الببلاوي إفادة رسمية إلى اللجنة قال فيها نصًا: إن "عدد القتلى كان أقل مما هو متوقع"، وهو ما يتطابق مع تصريحات سابقة له لوسائل الإعلام، لكنه أورده هنا لأول مرة كإفادة رسمية.
وفي حوار مع جريدة المصري اليوم، في سبتمبر 2013، سئل الببلاوي عن التوقعات قبل الفض إذا كان عدد الضحايا سيكون بالمئات أم أقل، فأجاب: "لقد أخذنا في الاعتبار الاحتمال الأسوأ عند التعامل مع تلك الأحداث، فالمتوقع كان أكبر بكثير مما حدث فعليًا على الأرض، النتيجة النهائية أقل من توقعاتنا".
وتوضح الوثائق أن الببلاوي لم يقتصر دوره على اتخاذ القرار النهائي بفض الاعتصام وتفويض وزير الداخلية بالتنفيذ، بل شارك قبل ذلك بأيام في اجتماع مجلس الدفاع الوطني يوم 27 يوليو، الذي حضره عبد الفتاح السيسي وزير الدفاع، ومحمد إبراهيم وزير الداخلية، ونبيل فهمي وزير الخارجية، وأحمد جلال وزير المالية، وعدد من القيادات العسكرية والأمنية، وانتهى بإصدار قرار إنهاء الاعتصام.
كما حرص الببلاوي قبل التنفيذ بأيام قليلة على زيارة معسكر قوات الأمن المركزي بالدراسة في 8 أغسطس، وهو المعسكر الذي خرجت منه القوات لتنفيذ عملية الفض بعد أيام من تلك الزيارة.
هكذا كشفت الوثائق والشهادات التي جمعتها اللجنة القومية لتقصي الحقائق أن ما جرى في رابعة لم يكن نتيجة قرار مرتجل أو مواجهة مفاجئة، كما تزعم الرواية الرسمية، بل كان عملية مخططًا لها بعناية مع إدراك مسبق لحجم الدماء المتوقع إراقتها.
لقد تجاهلت الحكومة البدائل السلمية المطروحة، واختارت الحسم الدموي الذي أسفر عن واحدة من أبشع المذابح في تاريخ مصر الحديث.
ورغم أن التقرير النهائي سُلّم إلى "السيسي" منذ أكثر من عقد، فإنه ظل حبيس الأدراج، بينما لم يُحاسب أي مسؤول على ما وقع.
إن بقاء هذه الجريمة بلا مساءلة، وتحويل تقرير رسمي موثق إلى وثيقة سرية، لا يعني فقط طمس الحقيقة عن ذوي الضحايا وعن المجتمع، بل يرسخ كذلك واقعًا من الإفلات من العقاب، ويؤكد أن الدولة انحازت إلى منطق القوة على حساب العدالة.
وبعد اثني عشر عامًا، لا تزال الأسئلة الكبرى مطروحة: متى يُكشف التقرير؟ ومتى يُعاد فتح التحقيقات؟ وهل يمكن أن تندمل جراح الوطن دون كشف الحقيقة ومحاسبة من أصدروا القرار ونفذوه؟