ظفر الإسلام خان يكتب: تحول الهند من أكبر ديمقراطية في العالم إلى جمهورية "البولدوزر"
الخميس - 21 يوليو 2022
ظلت الهند منذ استقلالها تدعى أنها "أكبر ديموقراطية" فى العالم. ورغم كثير من العيوب والنقائص والثغرات صدّق العالم هذه الدعوى متغاضيا عن آلاف الاضطرابات الطائفية ضد مسلمى الهند وإعلان حالة الطوارئ فى منتصف السبعينيات ومذابح السيخ (1984) ومذابح كوجرات (2002) واستمرار الاضطهاد والعنف فى حق المنبوذين والقبليين واستمرار الطبقية فى المجتمع الهندي… وكانت الهند دوما تظهر للعالم أنها تحاول اللحاق بركب العالم المتحضر بتبنى التعليم العصري وتحديث الصناعة والزراعة. وقد اهتزت هذه الصورة مرارا ولكن استطاعت الهند إقناع العالم بأنها تسعى حثيثا لتحديث بلدها ورفع مستوى مئات الملايين رغم صعاب جمة…
وبدون شك، كانت هناك رغبة حقيقية فى اللحاق بالعالم الحديث ووأد مخلفات عصور الظلام ، تمثلت فى إصرار جواهر لال نهرو على تحديث الهند وإرساء قواعد الديموقراطية الحقيقية بها فى صورة مؤسسات عصرية قوية.
وفى نفس الوقت كانت هناك قوى أخرى تعشق عصور الظلام وترى أن الماضى السحيق هو المثل الأعلى الذى يجب على الهند أن تحتذى به. وهذه القوى تؤمن بأن الهند القديمة كانت تتمتع بكل ما يفخر به عالم اليوم من طيران وصواريخ وطب رفيع والقدرة على زرع الأجسام!… وقوى الظلام هذه ترفض الدستور الهندي العلماني وترفض العلَم الهندى ذى الألوان الثلاثة وتعتبره نحسا للهند مفضلةً العلَم الزعفراني وهى ترفض التنازل عن قوانين (مانو) القديمة التى أسست الطبقية والمنبوذية واعتبرت المرأة جنسا أدنى من الرجل… وقد تمكنت هذه القوى من تكوين منظمة قوية تحت قيادة الآر.إيس.إيس. RSS التى يحكم الهندَ الآن فرعُها السياسي (حزب الشعب الهندي) منذ مايو 2014.
وهذه القوى الظلامية تعطى أهمية كبرى للقوة، وهى تعبد إلهة القوة (دُورْغا)، وهى تخرج فى مظاهرة مسلحة كل سنة فى مختلف المدن الهندية للتعبير عن إيمانها بالقوة، وهى تعبد السلاح فى يوم معين من أيام السنة، وهى دائما تقف إلى جانب الشرطة والجيش تؤيد تجاوزاتها وتطالب بالمزيد من المزايا لها.
صورة تعود لسنة 2009 لمودى وهو يعبد الأسلحة (المصدر: موقع إن دى تى فىNDTV)
وهذه القوى الظلامية تؤمن أيضا بأن الهند للهندوس وهى تعنى بذلك الطبقات العليا من الهندوس وأن الأقليات الدينية وخصوصا المسلمين والمسيحيين لا مكان لها فى الهند وإن بقيت فى الهند فعليها أن تقبل ما يعطى لها ولا تطالب بأية حقوق…
بعد حصول حزب الشعب الهندي - الواجهة السياسية لمنظمة الآر. إيس. إيس – على الغالبية الواضحة فى البرلمان المركزي لأول مرة فى مايو 2014، انطلق الحزب ينفذ برنامجه للأقليات الدينية أى المسلمين والمسيحيين ، تمثلت فى قتل مئات من المسلمين بتهمة تناولهم لحم البقر أو ذبح الأبقار، والاعتداء على المسلمين بتهمة حمل الهندوس على اعتناق الدين الإسلامي وإغراء الهندوسيات على الزواج بالمسلمين ، ومعارضة حجاب الطالبات المسلمات ، ومعارضة بيع اللحم الحلال ، ومعارضة كتابة وصف "الحلال" على العبوات الغذائية ، وتغيير مئات من الأسماء الإسلامية للمدن والقرى والشوارع والطرق بأسماء هندوسية لمحو المسلمين من تاريخ الهند، وتغيير الكتب المدرسية وكتب التاريخ لإخراج أية مواد تشيد بالمسلمين وإدخال مواد مهينة لهم، وتعديل قانون الجنسية لحرمان ملايين من المسلمين من الجنسية الهندية ، والدعوة الى إبادة ملايين من المسلمين، واستخدام البولدوزرات لهدم بيوت ومتاجر المسلمين حين يعارضون اقتحام غوغاء الهندوس أحياءهم رافعين شعارات السب والإهانة فى حق الإسلام ورسول الإسلام والمسلمين… والقائمة طويلة لا تنتهى. وقد توقفت المظالم ضد المسيحيين بسرعة لأن لهم مؤيدون أقوياء فى الغرب وتتدخل لصالحهم السفارات الغربية… أما المسلمون فأيتام على مائدة اللئام…
ويتمثل سوء معاملة السلطات فى صورة إساءة الشرطة للمسلمين وعدم الاستماع الى شكاويهم وعدم اكتراث الجهاز البيروقراطي بالمسلمين واتخاذ الحكومة خطوات تتعلق بالمسلمين ، الواحدة بعد الأخرى، بدون استشارتهم مثل التدخل فى القوانين الإسلامية وإلغاء الاستقلال الذاتي لكشمير ومحاولة تجريد ملايين من المسلمين من الجنسية الهندية عن طريق تغيير قانون الجنسية الهندي مما أجبر ملايين من المسلمين على الخروج للاحتجاج فى أوائل 2020 ضد محاولة تجريدهم من الجنسية الهندية وظلوا يقيمون مئات المظاهرات المستمرة ليل نهار فى طول البلاد وعرضها لمدة ثلاثة أشهر قبل أن تتمكن الحكومة من تفريقها بالقوة متذرعة بإجراءات مواجهة الكورونا.
وخلال فترة المظاهرات هذه ، التى لم يكن لها نظير فى الهند الحديثة، بدأت الحكومة، وخصوصا فى الولايات التى يحكمها حزب الشعب الهندي مثل أوتارابراديش، تعتقل مئات من قادة الاحتجاجات، وتفرض عليهم غرامات مالية باهظة وتصادر ممتلكاتهم وتهدمها بالبلدوزر وكل ذلك بدون اتباع إجراءات قضائية. ولم يكن هذا أول استخدام للبلدوزر فى الهند ، فقد سبق لها استخدام البولدوزر لسنوات طويلة فى كشمير لهدم البيوت والبنايات التى يحتمى بها المسلحون الانفصاليون أو يطلقون منها النيران. كما استخدمت الحكومة البولدوزر لهدم بيوت من تسميهم بـ"المافيا" بينما غالبيتهم سياسيون مسلمون يعارضون سياسات حزب الشعب الهندي … ووصل بها الأمر أن استخدمت البولدوزرات لهدم أجزاء من جامعة جوهر Jauhar Universityفى مدينة رام بور التى بناها الزعيم المسلم والوزير السابق (أعظم خان) الذى يعتبر مناوئا قويا لحزب الشعب الهندي وقد أقيمت عليه نحو 80 قضية حتى لا يخرج من السجن إلا أنه وقد خرج الآن بعد تدخل المحكمة العليا عقب قضاء 27 شهرا فى السمجن بتهم واهية.
ودائما تتذرع الحكومة بأنها تتخذ إجراءات الهدم ضد "بنايات غير مرخّصة"، رغم أن البنايات المستهدفة هى تقريبا فى كل الأحوال للمسلمين الذين يرفعون صوتهم ضد سياسيات الحكومة ، وبناياتهم ليست هى البنايات غير المرخّصة الوحيدة فى المنطقة. وقد قال كبير وزراء ولاية دلهى (كيجريوال) أن 70 فى المائة من بنايات العاصمة الهندية هى "غيرمرخّصة" ، فهل سيتم هدمها؟ ونفس الشئ ينسحب على كل المناطق الأخرى فى الهند حيث فشلت وكالات الحكومة فى توفير وتسهيل بناء مساكن ومتاجر جديدة تواكب متطلبات المجتمع واقتصاد يتوسع بسرعة ، فقام المواطنون ببناء بيوتهم ومكاتبهم على أراض زراعية وغيرها بدون الانتظار للإجراءات الطويلة. وكان أسلوب الحكومة فى التعامل مع هذه المشكلة هو أنها تأتى كل عدة سنوات فتقوم بتسوية أوضاع أحياء معينة وتعترف بها ومع ذلك بقيت غالبية المناطق الجديدة غير مرخصة . وبدلا من اتخاذ إجراء ضد هذه المشكلة العامة تأتى الحكومة لهدم بيت أو متجر مسلم معارض لها ثم تتذرع بأنها تهدم بيتا "غير مرخّصا" بينما ذلك البيت أو المتجر محاط بآلاف البيوت والمتاجر من نفس النوع وفى نفس الشارع والمنطقة ولكن لايتخذ ضدها أي إجراء!
وبدأ استخدام البولدوزرات على نطاق واسع فى ابريل الماضى حين حاولت مظاهرات هندوسية صاخبة دخول أحياء المسلمين فى نحو 20 مدينة عبر (10) ولاية هندية. وفى كل مكان حاول المسلمون صد هذه المظاهرات الاستفزازية وصلت البولدوزرات سريعا لتهدم بيوتهم كما جرى فى منطقة جهانغيربورى بالعاصمة الهندية فى 20 أبريل الماضى. ولم ينقذ جهانغيربورى إلا أمر مباشر من المحكمة العليا بوقف الهدم فى تلك المنطقة بينما استمر الهدم فى مناطق أخرى بما فيها عشرات من مناطق العاصمة الهندية نفسها فى الأيام التالية.
وخرجت البولدوزرات مرة أخرى فى المناطق التى خرج مسلموها يحتجون على الإساءة للرسول الأكرم فى عشرات من المدن الهندية فى الأسبوعين الأخيرين. وقد جرى اعتقال آلاف من المسلمين فى أنحاء الهند وتمت مصادرة ممتلكات مئات منهم وهدمت بيوت من اعتبرته السلطات من "قادة" المظاهرات .. وجرى ذلك - كالعادة - بحجة أنها بنايات "غير مرخصة" رغم أن البيوت المستهدفة تقوم وسط آلاف من البنايات "غير المرخّصة"!
ويمكن القول أن الموجة الجديدة من استخدام البولدوز ضد مظاهرات المسلمين الاحتجاجية فى أنحاء الهند ، وخصوصا ولاية أوتار براديش ، هى رد فعل السلطات الهندية على الذل والهوان اللذين تعرضت لهما عالميا بسبب إساءة زعماء الحزب الحاكم لرسول الإسلام. وبما أن الحكومة لا تستطيع سوى السكوت والاعتذار للقوى الخارجية، فهى تصب جام غضبها على "العدو الداخلي" الذى تراه مسئولا عن تضخيم الأمر وتوصيله إلى العالم الخارجي. وهى محاولة أيضا لتهميش مسلمى الهند الذى يظل هدفا ثابتا من أهداف الحركة الهندوسية السياسية التى ينتمى اليها الحزب الحاكم.
ويرى المراقبون أن سياسيات التهميش والاضطهاد ضد الأقلية المسلمة ستستمر داخل الهند رغم ردود الفعل الخارجية ، وذلك لأن الحزب الحاكم يستفيد سياسيا من هذه السياسة التى تساعده على استقطاب أصوات الهندوس (80 فى المائة) فى مواجهة المسلمين (أقل من 15%) مما يعنى أن الحزب سيظل يفوز فى الانتخابات القادمة بإيهام الهندوس بأنه يعمل لأجل مصالحهم ويكبح ويهمش المسلمين إذ لولا حزب الشعب الهندي لتنمر مسلمو الهند ولأصبحوا أكثرية فى البلاد!... وهو بدون شك وهمٌ لاحقيقة له على أرض الواقع ولكن لهذه الكذبة فوائدها السياسية حين يؤمن بها عدد لابأس به من الناخبين الهندوس.
ومهما كان الأمر، فخروج البولدوزر لتنفيذ سياسات الحزب الحاكم بدون مراعاة الإجراءات القانونية المتبعة فى البلاد الديمقراطية ولجوء حكام الهند الى قانون الغاب يعنى بالتأكيد أن أسطورة "أكبر ديمقراطية فى العالم" قد وُئدت نهائيا تحت أنقاض البنايات المهدمة...
المصدر الجزيرة نت