تضامن الساعات.. حين تتحول قضايا الأمة إلى موجات عابرة
الخميس - 14 آغسطس 2025
أسامة غريب
"دمٌ يملأ الأرض… وصوتٌ يضيع في الضجيج"
لم تكن حكاية أنس الشريف، الصحفي الذي رفض الصمت حتى دفع حياته ثمنًا، سوى فصل من كتاب طويل مكتوب بدماء أبناء هذه الأمة.
كتاب تتوزع فصوله بين غزة واليمن ومصر وسوريا والسودان وبورما، وغيرها من الساحات التي يختلط فيها صوت المأساة بطنين الضجيج العابر.
في غزة، ما يزيد على ستين ألف شهيد منذ اندلاع العدوان الأخير، أحياء تحت الركام، مدن أزيلت من الخريطة، جوع، عطش، وموت بطيء، وسط عجز دولي وصمت عربي إلا من موجات غضب على وسائل التواصل.
في اليمن، حرب مفتوحة منذ سنوات، أطفال ببطون خاوية، أمراض وأوبئة، وبنية تحتية مدمرة، والناس تتابع المأساة لبضعة أيام ثم تنصرف.
في مصر، قصص المعتقلين والمخفيين قسريًا، الإعدامات، تكميم الأفواه، تمر على الشاشات سريعًا قبل أن تبتلعها أحداث جديدة.
في الضفة والقدس، استيطان يتمدد، تهجير قسري، اقتحامات، واعتداءات، كلها تتحول إلى "مقاطع" يتداولها الناس ثم تُنسى.
وفي السودان وسوريا وليبيا والعراق، دماء لا تجف، وأزمات لا تجد لها في الضمير العالمي أو المحلي مساحة دائمة، بل مجرد ومضات موسمية.
ظاهرة متكررة
المشهد واحد: كارثة، ضجة، صور، منشورات، بث مباشر، ثم هدوء يسبق الكارثة التالية.
لا فرق إن كان الضحايا في بيت حانون أو صنعاء أو القاهرة أو الخرطوم، فطريقة التفاعل واحدة: تفريغ غضب على المنصات، شعور لحظي بالرضا أننا "قمنا بواجبنا"، ثم انسحاب من المشهد حتى إشعار آخر.
وسائل التواصل الاجتماعي، التي وُلدت كأداة لكسر التعتيم وحشد الجماهير، تحولت اليوم إلى مسكّن جماعي.. نكتب منشورًا، نشارك صورة، نغلق الشاشة، فنشعر أننا ساهمنا، بينما الواقع لم يتغير.
هذه الدوامة لا تضر فقط الضحايا، بل تصنع شعورًا كاذبًا بالإنجاز يمنعنا من الانتقال إلى خطوات عملية.
التوثيق الرقمي ضرورة، لكنه ليس نهاية الطريق، فما لم تتحول هذه الصور والكلمات إلى ضغط سياسي، دعم مالي منظم، تحرك شعبي مستمر، ومساءلة دولية، فإننا نشارك – دون أن نشعر – في إفراغ المأساة من حقيقتها.
الخطر الحقيقي
المجرمون يدركون هذه المعادلة جيدًا، ويعرفون أن العاصفة الإلكترونية قصيرة العمر، وأن الرأي العام ينسى بسرعة، ولهذا يراهنون على إرهاقنا العاطفي، حتى يتحول الدم المسفوك إلى مجرد ذكرى عابرة بين آلاف المنشورات.
كسر هذه الظاهرة يبدأ بالوعي: أن نفهم أن التضامن الرقمي ليس بديلاً عن الفعل الحقيقي، وأن الغضب يجب أن يُترجم إلى خطوات عملية، وأن القضايا الكبرى لا تُخاض كموسم، بل كمسار طويل النفس.
حين يتحول كل تضامن إلى فعل، وكل غضب إلى خطة، وكل صورة إلى وثيقة اتهام، عندها فقط يمكن أن ينتصر الدم على النسيان.